نزع السياسة عن التحرر الفلسطيني: قراءة نقدية في مقال ماجد كيالي!
غانية ملحيس
الملخص التنفيذي
يقدّم هذا المقال قراءة نقدية لمقال ماجد كيالي، المعنون «في انطلاقتها الـ 38 انتهت “حماس” إلى حيث وصلت فتح”، المنشور في صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 19/11/2025.
تركز القراءة على أزمة السياسة الفلسطينية في مواجهة الاستعمار الاستيطاني، انطلاقًا من دراسة العلاقة بين السلطة والمقاومة الفلسطينية، لفهم ما أُطلق عليه في الأدبيات الفلسطينية الحديثة: “نزع السياسة عن التحرر الفلسطيني”.
يُظهر التحليل أن الخطأ الأساسي ليس في المقاومة الفلسطينية نفسها، بل في الاعتقاد بأن خيار الامتثال، أو الجمع بين حكم ذاتي محدود تحت الاحتلال وبين المقاومة، يمكن أن يكون بديلا عقلانيا عن التحرر.
تعتمد القراءة النقدية على إطار نظري مستند إلى فانون، سيزير، وولف، الذين يوضحون أن الاستعمار الاستيطاني الإحلالي ليس حدثا عابرا، بل بنية مستمرة، لا يمكن مواجهتها بالامتثال أو الحلول الجزئية. كما تقدم مقارنات تاريخية دولية (الجزائر، فيتنام، جنوب أفريقيا) لإثبات أن المقاومة الشاملة، وخصوصا المسلحة، كانت شرطا أساسيا لتحرير الشعوب المستعمَرة، ما ينفي أي افتراض بأن النضال السلمي وحده قادر على تحقيق التحرر ضد استعمار إحلالي مغلق هوياتيا ومفتوح زمنيا.
يوضح التحليل التاريخي أن إدارة الحياة تحت الاحتلال دون مقاومة شاملة فاشلة، والخطيئة الكبرى هي وهم التعايش بين القاتل والقتيل.
وتؤكد القراءة النقدية أن إعادة بناء السياسة التحررية الفلسطينية تتطلب:
.1 المقاومة الشاملة كأساس وجودي،
.2 النقد الذاتي البنيوي الموجه للخيارات الاستراتيجية،
.3 الربط بين الدروس التاريخية والممارسة الفلسطينية الراهنة.
المقال الكامل
نزع السياسة عن التحرر الفلسطيني: قراءة نقدية في مقال ماجد كيالي
يناقش مقال ماجد كيالي، المعنون «في انطلاقتها الـ 38 انتهت “حماس” إلى حيث وصلت فتح»، مسألة الجمع بين السلطة والمقاومة في التجربة الفلسطينية، مركزا على الأخطاء المفترضة لدى حركتي فتح وحماس.
وتعتبر هذه القراءة النقدية للمقال نقطة انطلاق لفهم مسار أوسع يُعرف باسم “نزع السياسة عن التحرر”، الذي يشير إلى سلسلة من التحولات البنيوية التي حوّلت الفعل السياسي الفلسطيني من مقاومة متكاملة تهدف إلى التحرر إلى إدارة حياة تحت الاحتلال، مع تحجيم المقاومة واعتبار الامتثال أداة عقلانية للتعايش مع مشروع استيطاني إحلالي.
يشير الكيالي إلى أن: “حماس، في ذكرى انطلاقتها الـ 38، كرست الذكرى للتأكيد على ما تسميه ثوابتها ومبادئها وفرادتها، دون التطرق إلى حيثيات تجربتها وخطاباتها فيما يتعلق بالسلطة أو المنظمة، أو خياراتها في المقاومة والسياسة والتحالفات الإقليمية. وحتى في البيان الذي أصدرته تجاهلت حماس مسؤوليتها عن عملية ‘طوفان الأقصى’ في 7/10/2023، التي استخدمتها إسرائيل كفرصة لشن حرب إبادة جماعية، ما تسبب في تدمير قطاع غزة وتشريد الفلسطينيين وجعلهم تحت رحمة إسرائيل والمساعدات الدولية. وتجاهلت تصريحات قياداتها مبررات العملية، مثل تبييض السجون ووقف الانتهاكات في المسجد الأقصى، وركزت على شعارات وادعاءات لتبرير الفعل بدل تقييم استراتيجي دقيق للكارثة”.
فلم تعد المشكلة الأساسية في التشخيص، بل في الاستنتاج الذي يُبنى عليه، والإيحاء بأن خيار فتح المبكر القائم على المفاوضة ونزع المقاومة الخيار هو “الصحيح” أو “العقلاني”.
ينطلق مقال الكيالي من الأحداث الأخيرة ويعزلها عن السياق التاريخي للصراع الممتد على مدى أكثر من قرن، ويغفل في تحليله طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، الذي لا يقبل التعايش مع السكان الأصليين.
وعليه، فإن القراءة النقدية لمقاله تبقى قاصرة دون تحديد الإطار النظري للاستعمار الاستيطاني واستقراء تاريخ الصراع منذ بداية الغزو الغربي الصهيوني لبلادنا في منتصف القرن التاسع عشر، وتحوله إلى مشروع وخطة تنفيذية في مطلع القرن العشرين، وإنشاء إسرائيل عام 1948، وتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وصولًا إلى طوفان الأقصى وتداعياته.
أولا: الإطار النظري للاستعمار الاستيطاني
1.1 فانون: الاستعمار كبنية عنف
يوضح فرانز فانون في كتابه Les Damnés de la Terre (1961)، أن الاستعمار ليس مجرد حدث سياسي عابر، بل بنية عنف متجذّرة تُعيد إنتاج نفسها باستمرار، وتؤسس علاقة قهر لا تقوم على التفاوض، بل على الإخضاع، بحيث يغدو الامتثال فضيلة زائفة داخل منطق السيطرة الاستعمارية.
ومن هذا المنطلق، يصبح توصيف طوفان الأقصى بوصفه «فرصة استغلتها إسرائيل للبطش» مجرد قراءة للنتيجة، لا تحليلا للبنية، لأن العنف الاستعماري ممارسة بنيوية سابقة على الحدث وملازمة له، تتخذ أي فعل مقاوم ذريعة لتفعيل منطق الإبادة الكامن أصلا في المشروع الاستيطاني.
ومن هنا يتسق تحليل فانون مباشرة مع نقد سيزير حول كيفية إفراغ الاستعمار السياسة والأخلاق من معناها، ما يجعل أي خيار عقلاني مزيفا ضمن بنية الهيمنة.
2.1 سيزير: الاستعمار والإخلال بالمعنى
يشدد إيمي سيزير (Discours sur le colonialisme, 1950) على أن “الاستعمار لا يفسد المستعمَر وحده، بل يفرغ السياسة والأخلاق من معناهما، ويحوّل الخطاب العقلاني والإنساني إلى أداة لإدامة السيطرة”.
ضمن هذا الإطار، يبدو خيار فتح المبكر عقلانيا على الورق، لكنه عمليًا يكرّس بنية الاستعمار الاستيطاني، ويضعف الفعل المقاوم، ويقوض إمكانات التحرر، ما يجعل “العقلانية” نفسها جزءا من آلية نزع السياسة عن التحرر.
ومن هذا المنظور، لا يقتصر ما وُصف بـ«انفصام حماس عن الواقع في إدراكاتها السياسية، المحمّلة بالأوهام» على حركة بعينها، بل يمتد إلى جلّ النظام السياسي الفصائلي، وعموم الطبقة السياسية الفلسطينية في الموالاة والمعارضة، وإلى الغالبية العظمى من النخبة الثقافية الفلسطينية والعربية، بوصفه نتاجا لانخراط واسع في خطاب عقلاني منزوع المعنى، يعيد إنتاج الامتثال بدل تفكيك بنية الاستعمار.
3.1 باتريك وولف: الاستعمار الاستيطاني بنية لا حدثا
إذا كشف سيزير كيف يُفرغ الاستعمار السياسة من معناها عبر خطاب عقلاني زائف، فإن وولف يبيّن أن هذه البنية الاستعمارية مستمرة ولا تُهزم إلا بمقاومة شاملة، مبيّنًا أن هذا التفريغ ليس انحرافا طارئا، بل نتاج بنية استعمارية استيطانية مستمرة لا تُفكَّك بالخطاب ولا تُدار بالحلول الجزئية.
كما يؤكد في مقاله الشهير 1999 “Settler colonialism and the elimination of the native” أن الاستعمار الاستيطاني لا يقتصر على الاحتلال المؤقت للأرض، بل يسعى إلى إحلال السكان الأصليين أو محوهم ماديًا وسياسيًا ورمزيًا، مستمرًا عبر الزمن وبغض النظر عن أي اتفاقيات أو حلول جزئية.
هذا التصور البنيوي يوضح أن أي سياسة فلسطينية قائمة على الامتثال أو نزع المقاومة تصبح ضارة، لأنها تُعيد إنتاج الهيمنة نفسها تحت ستار إدارة “الممكن” أو “المسؤولية الواقعية”.
ثانيا: الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني (1897–1948)
تعود جذور المشروع الصهيوني إلى القرن التاسع عشر، عندما بدأ الغزو الاستعماري الأوروبي لبلادنا، وكان نابليون بونابارت أول من طرح فكرة توطين اليهود في فلسطين، في إطار حملته الإمبراطورية التوسعية لاحتلال المشرق العربي (1799-1802).
غير أن الظروف الموضوعية آنذاك، والتنافس الفرنسي البريطاني على المنطقة، ومعارضة اليهود للفكرة، وعدم وجود حامل سياسي يهودي للمشروع، عطل تحويل الفكرة إلى مشروع، لكنه بدأ بالتبلور في مؤتمر لندن عام 1840، عندما توافقت القوى الاستعمارية الغربية المتنفذة على التعاون معا لوقف تقدم محمد علي والي مصر، ومنعه من نقل مركز قيادة دولة الخلافة الإسلامية من مركزها العثماني الآيل للسقوط، وإبرام اتفاقية جماعية مع الإمبراطورية العثمانية لدعمها عسكريًا وادامة حكمها مقابل امتيازات للدول الغربية.
نجحت الإمبرياليات الغربية، المسيحية واليهودية، خلال نصف قرن في بناء الحامل السياسي اليهودي، فتم إعلان تأسيس الحركة الصهيونية اليهودية رسميا في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 29-31/8/1897 حضره 240 عضوًا من 17 دولة، وأعلنت هدفها بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ما شكل بداية مرحلة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي.
وفي المؤتمر الصهيوني السابع عام 1905 تبنت الحركة الصهيونية رسميًا مشروع استيطان فلسطين، وتم إدماجه في المشروع الإمبريالي الغربي العام في مؤتمر كامبل (1905-1907) للاستيلاء على إرث الإمبراطورية العثمانية، ودمجه في السياسات الإمبريالية الغربية، وإدراجه في اتفاق سايكس- بيكو 1916، وتصريح بلفور 1917، وإدراجه في مقررات مؤتمر سان ريمو الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، وأرسى قواعد النظام الدولي الذي أنشأته القوى المنتصرة، وشكل الإطار المؤسسي، عصبة الأمم، التي تبنت تنفيذ المشروع الاستيطاني اليهودي الخاص في فلسطين، وأوكلت لبريطانيا مهمة الإشراف المباشر، ووضعت خارطة طريق تم تضمينها بصك الانتداب البريطاني 1922، لاستبدال فلسطين بإسرائيل جغرافيا وديموغرافيا.
تم إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 على 78% من مساحة فلسطين الانتدابية واقتلاع 85% من الشعب الفلسطيني منها، ومنع الشعب الفلسطيني من إنشاء دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية التي بقيت خارج الاحتلال (22%). هذه الأحداث شكّلت أساس النكبة الكبرى التي واجهها الشعب الفلسطيني، وأدت إلى تشريد ملايين الفلسطينيين في المخيمات، واستكمال احتلالها عام 1967، وتحول المقاومة إلى شرط للبقاء.
هذا السياق يوضح أن المقاومة الفلسطينية منذ البداية واجهت استعمارا استيطانيا عنصريا إحلاليا مغلق الهوية على يهود العالم من مختلف الأعراق والقوميات، ومفتوح زمنيا، وبنية غير قابلة للتفاوض الجزئي، وهو ما يؤكد أهمية القراءة البنيوية لفانون وسيزير ووولف، التي تعيد السياسة إلى معنى المواجهة البنيوية بدل إدارة الخسارة.
ثالثا: الاستعمار الاستيطاني وبنية الخطأ
هنا تبرز المسألة النظرية الحاسمة: الاستعمار الاستيطاني ليس حدثا تاريخيا يُغلق بالتسوية، بل بنية مستمرة هدفها الإحلال لا السيطرة. وكما صاغ باتريك وولف: “الاستعمار الاستيطاني بنية لا حدثا”، أي أنه لا يتوقف عند احتلال الأرض، بل يستمر عبر محو السكان الأصليين ماديا أو سياسيا أو رمزيا.
بنية كهذه لا تُهزَم بالامتثال، ولا تُدار بالمفاوضات، بل تُواجَه بمقاومة شاملة يكون عمودها الفقري الفعل المقاوم القادر على فرض كلفة على مشروع الإحلال.
فلم تنتصر الجزائر بالاعتراف الفرنسي، بل حين صار الاستعمار عبئًا لا يُحتمل. ولم تُهزم الإمبراطورية الأمريكية في فيتنام بالعصيان المدني وحده، بل بحرب تحرير طويلة. وحتى جنوب أفريقيا، التي يُعاد تسويقها كقصة “تحرر سلمي”، لم يبدأ تفكيك الأبارتهايد فيها إلا بعد الجمع بين الكفاح المسلح، والعقوبات الدولية، وتحويل النظام العنصري إلى عبء أخلاقي واقتصادي، فاللاعنف هناك لم يكن بديلا عن القوة، بل ثمرة لاختلال ميزانها.
كيف يكون الحال مع استعمار استيطاني عنصري، إلغائي، إحلالي، مغلق على “يهود العالم” من مختلف الأعراق والقوميات، ومفتوح زمنيا بلا سقف، ولا يرى في السكان الأصليين شركاء محتملين، بل فائضا بشريا يجب إدارته أو إزالته، علاوة على كونه كيانا وظيفيا في مشروع إمبريالي عام يستهدف عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة؟
رابعًا: المقاومة الفلسطينية عبر الأجيال
1.4 جيل النكبة (1948–1967)
واجه الفلسطينيون محاولات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاقتلاع الإحلالي قبل النكبة وبعدها.
المقاومة في هذه المرحلة كانت محلية ومجزأة، لكنها أظهرت أهمية الفعل المسلح كشرط للبقاء، سواء عبر مجموعات الدفاع الشعبية أو مقاومة اللاجئين في المخيمات داخل الوطن وفي مواطن اللجوء.
2.4 جيل ما بعد 1967
مع استكمال الاحتلال الكامل لفلسطين الانتدابية، بالاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، أصبح تنظيم المقاومة المسلحة ضرورة استراتيجية، إلى جانب المقاومة السياسية والدبلوماسية.
كان الخطأ الاستراتيجي يتمثل في الانحراف عن الهدف التحرري عام 1974، وانخراط منظمة التحرير الفلسطينية بنهج التسوية السياسية مع عدو وجودي نقيض هدفه استبدال كامل فلسطين بإسرائيل، واستبدال الشعب العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود المستجلبين من كافة بقاع الأرض.
منهج منظمة التحرير الفلسطينية في السعي لمهادنة العدو، ظنًا بإمكانية مقايضة ما سبق احتلاله من فلسطين عام 1948 (78%) بما جرى احتلاله عام 1967 (22%) والاعتراف المسبق بشرعية الاحتلال الصهيوني، لم يسفر عن إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السيادة والسلاح، بل أدى إلى حكم ذاتي محدود عبر اتفاقيات أوسلو، تقلص إلى 18% من الأراضي المأمولة في الـ 22%، وبلا سيادة على الأرض والموارد، مما ضاعف التناقض بين السلطة والمقاومة، وجعل الإدارة تحت الاحتلال أولوية على التحرر والاستقلال الفعلي.
وعليه فإن السؤال الذي طرحه الكيالي لم يعد فقط «لماذا لم تدرك حماس مبكرًا استحالة الجمع بين المقاومة والسلطة؟ ولماذا حكمت غزة بطريقة أحادية وإقصائية حتى إزاء أقرب حلفائها من الفصائل؟» بل، أيضا، لماذا ما يزال النظام السياسي الفصائلي والطبقة السياسية والنخبة المثقفة الفلسطينية متمسكين بنموذج حكم ذاتي وصل مداه تاريخيا وأثبت فشله في مواجهة التهديد الوجودي الفلسطيني؟
3.4 جيل المقاومة المعاصرة (2005–2025)
تعرض قطاع غزة، منذ الانسحاب الإسرائيلي الأحاديّ غير المنسق مع السلطة الفلسطينية – المعاد هيكلتها عام 2005 سياسيا واقتصاديا وأمنيا ومؤسسيا وفق الشروط الاسرائيلية والأمريكية تحت إشراف الرباعية الدولية، والإشراف المباشر للجنرال الأمريكي دايتون- إلى حصار إسرائيلي، تطور إلى حصار شامل، إسرائيلي وفلسطيني وعربي ودولي، بعد انفراد حماس عام 2007 بحكم غزة، إثر إفشال حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006. وشهد القطاع خلال عقد ونصف خمسة حروب مدمرة، أنهكت الشعب الفلسطيني، وأضعفت مناعته الكلية في مواجهة مخططات المحو الوجودي، والشروع اسرائيليا ودوليا وإقليميا وعربيا بحسم الصراع وتجاوز الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والسياسية، خلال فترة الرئاسة الاولى لدونالد ترامب 2016 – 2020، وتواصلت بعد تولي الإدارة الديمقراطية والرئيس جو بايدن الرئاسة – 2020-2024، حيث أصبحت المقاومة المسلحة ضرورة للدفاع عن الوجود، في ظل استمرار الإبادة والاستيطان.
فالامتثال أو المفاوضات لم تنقذ الفلسطينيين من الإبادة والتدمير والتوسع الاستيطاني جغرافيا وديموغرافيا، ما يؤكد أن الفعل المقاوم وحده يظل العمود الفقري لإفشال المحو والتأسيس لأي استراتيجية تحريرية.
وعليه، يستغرب استخلاص الكيالي بأن «تدمير قطاع غزة، وتشريد الفلسطينيين، وجعلهم تحت رحمة إسرائيل والمساعدات الدولية…» كان نتيجة لعملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023
خامسا: النقد الذاتي الفلسطيني وفصل الأخطاء
يؤكد التحليل ضرورة النقد الذاتي مع التمييز بين:
- الأخطاء البنيوية: يتحملها النظام السياسي الفصائلي والطبقة السياسية والنخبة الثقافية الفلسطينية، مثل وهم إمكانية التعايش مع المستعمر وتحويل السياسة إلى إدارة حياة تحت الاحتلال.
- الأخطاء الوهمية في المقاومة: تُحمّل للمقاومة المسلحة بوصفها خطيئة، في حين يثبت الواقع أن أي محاولة لإنقاذ المعنى أو الإنسان دون مواجهة بنية الاستعمار فاشلة.
الخطيئة الكبرى هي الاعتقاد بأن الامتثال يمكن أن يحمي الإنسان والمعنى، بينما الواقع يثبت أن أي محاولة لإنقاذ المعنى أو الإنسان دون مواجهة بنية الاستعمار الاستيطاني فاشلة. وأن التحرر لا يتحقق إلا من خلال مواجهة البنية نفسها.
سادسا: نحو إعادة بناء السياسة التحررية الفلسطينية
توضح القراءة النقدية أن الفشل في الجمع بين السلطة والمقاومة ليس مجرد خطأ تنظيمي لحركة ما، بل نتيجة هيكلية لنزع السياسة عن التحرر الفلسطيني.
فقد تحول خيار فتح المبكر، القائم على الامتثال وإدارة الحياة تحت الاحتلال، إلى نموذج يُقدَّم كبديل عقلاني عن المقاومة، فيما الواقع أثبت فشله في حماية الشعب الفلسطيني أو الحفاظ على وجوده.
الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بما في ذلك حماس، تعاني من إرث هذا المسار: محاولة الجمع بين إدارة السلطة والمقاومة، مع كل ما ينجم عن ذلك من تناقضات وعجز عن صياغة استراتيجية تحريرية متكاملة.
النتيجة هي استمرار دورة من الحروب والإحباط، حيث يُطلب من الفلسطينيين الامتثال للهيمنة الاستعمارية، وفي الوقت نفسه تحمل عبء المقاومة دون أدوات سياسية حقيقية لتحويلها إلى قوة استراتيجية متكاملة.
سابعا: ركائز السياسة التحررية الفلسطينية
1.7 المقاومة الشاملة كأساس وجودي: تشمل الفعل المسلح والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بحيث يكون عمودها الفقري الفعل المقاوم القادر على فرض كلفة حقيقية على الاحتلال الإحلالي.
2.7 النقد الذاتي البنيوي: توجيه النقد للخيارات الاستراتيجية التي أعطت الشرعية ضمنيًا للاحتلال، مع تفكيك وهم إمكانية التعايش بين القاتل والقتيل، وتصحيح المسار الاستراتيجي.
3.7. الربط بين التاريخ والممارسة الراهنة: استلهام الدروس من تجارب التحرر الكبرى في الجزائر، فيتنام، جنوب أفريقيا، وغيرها، مع إدراك خصوصية الاستعمار الاستيطاني الفلسطيني الإحلالي، المغلق هوياتيا والمفتوح زمنيا، والذي يستلزم مقاربة استراتيجية متكاملة تجمع بين الفعل المقاوم والتنظيم السياسي الفاعل.
في هذا الإطار، يصبح النقد الذاتي الفلسطيني أداة تحريرية، لا وسيلة لإدانة المقاومة، ويصبح المقال النقدي ليس مجرد قراءة فردية، بل جزءا من مشروع معرفي أكبر يهدف إلى استعادة السياسة بوصفها فعلا تحرريا، لا إدارة حياة تحت الاحتلال.
ثامنا: من نقد الحدث إلى نقد البنية: استحالة التحرر دون تفكيك الاستعمار الاستيطاني
تُظهر هذه القراءة النقدية أن الإشكال الجوهري في السياسة الفلسطينية اليوم ليس مجرد إدارة حياة تحت الاحتلال، بل مواجهة بنية استعمارية متجذرة تهدد الوجود.
النقاش الفلسطيني الراهن لا يكمن في المقاومة بوصفها فعلا، بل في المسار الذي جرى عبره تفريغ السياسة من مضمونها التحرري وتحويلها إلى إدارة للخسارة تحت شروط الاستعمار الاستيطاني.
فالامتثال، مهما تزيّن بخطاب العقلانية أو الواقعية، لا يشكّل بديلا عن التحرر، بل أحد آليات إدامة البنية التي تقوم على الإحلال ونفي الوجود.
من هذا المنظور، لا يعود السؤال الذي طرحه ماجد كيالي حول “انتهاء حماس إلى حيث وصلت فتح” سؤالا كافيًا أو منتجا، إذ يغفل أن المأزق أعمق من مسار تنظيم بعينه، وأسبق من حدث محدد، ويتعلق بعجز تاريخي في إدراك طبيعة الصراع بوصفه صراعا وجوديا مع بنية استعمارية لا تُفكَّك بالتسويات ولا تُدار بالحلول الجزئية.
إن استعادة السياسة الفلسطينية بوصفها فعلا تحرريا تقتضي القطع مع وهم التعايش بين القاتل والقتيل، وإعادة وصل المقاومة بالنقد الذاتي البنيوي، وربط الدرس التاريخي بالممارسة الراهنة ضمن استراتيجية شاملة تفرض كلفة على مشروع الإحلال.
دون تفكيك البنية الاستعمارية ذاتها، تبقى كل قراءة للحدث، مهما بدت عقلانية، أسيرة منطق نزع السياسة عن التحرر، وعاجزة عن فتح أفق فعلي للتحرر الفلسطيني.
20/12/2025