مثلث موسكو – يريفان – طهران: هندسة جديدة للتكامل الأوراسي!
سماهر الخطيب
يشهد المشهد الجيوسياسي في أوراسيا تحولات عميقة، أبرزها تشكّل مثلث اقتصادي متماسك يربط بين موسكو ويريفان وطهران، في إطار رؤية جديدة للتكامل الإقليمي تتجاوز الاتفاقيات الثنائية التقليدية نحو بناء منظومة مترابطة من المصالح المشتركة، تمكّن أطرافها من مواجهة الضغوط الخارجية وتعزيز حضورها في عالم متعدد الأقطاب.
⸻
اتفاق تجارة حر يشكّل نقطة الانطلاق
البداية كانت في مايو 2025 مع دخول اتفاقية التجارة الحرة الكاملة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران حيّز التنفيذ، ما ألغى الرسوم الجمركية على 90% من السلع. هذا التطور أحدث تحوّلًا نوعيًا في مسارات التجارة والنقل، إذ بدأت طرق التجارة تتجه تدريجيًا من الممرات البحرية الغربية نحو العمق القاري الأوراسي.
روسيا: بوابة نحو الخليج وجنوب آسيا
بالنسبة لروسيا، يفتح هذا التحالف آفاقًا جديدة للوصول إلى أسواق وموارد كانت شبه مغلقة بفعل العزلة الغربية. فإيران، بما تملكه من ثروات نفطية وغازية وقاعدة استهلاكية واسعة، تمثل ركيزة استراتيجية تمنح موسكو منفذًا مباشرًا إلى الخليج العربي وجنوب آسيا.
وقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 35%، مع توقعات ببلوغه 12 مليار دولار على المدى المتوسط. ويلعب ممر النقل الدولي الشمال–الجنوب دورًا محوريًا في هذه المنظومة، إذ يربط مدينة سانت بطرسبورغ بالهند مرورًا بالأراضي الأرمينية، مما يقلص زمن الرحلة إلى النصف مقارنة بمسار قناة السويس. وقد سجّل الممر في عام 2024 زيادة في حركة البضائع بنسبة 19% ليصل إلى 26.9 مليون طن، مما جعل روسيا مركزًا لوجستيًا رئيسيًا في طرق أوراسيا الجديدة.
إيران: الخروج من العزلة الاقتصادية
أما إيران، فترى في هذه الشراكة فرصة تاريخية لكسر طوق العزلة الاقتصادية الذي فرض عليها لسنوات. فولوجها إلى سوق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي يضم نحو 185 مليون نسمة، يتيح لها توسيع صادراتها من الطاقة والمنتجات الزراعية والبضائع المختلفة. وتتميّز هذه الشراكة بأنها قائمة على مصلحة اقتصادية متبادلة بعيدًا عن التناقضات الجيوسياسية، وهو ما يمنحها طابعًا مستقرًا ومفيدًا لطهران.
أرمينيا: عقدة الوصل بين الشمال والجنوب
تحتل أرمينيا موقعًا محوريًا في هذا المثلث بصفتها الدولة الوحيدة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي التي تمتلك حدودًا مباشرة مع إيران. فهي تتحول تدريجيًا إلى عقدة وصل لوجستية تربط بين الشمال والجنوب، وتجني من تقليص الرسوم الجمركية نحو 11 مليون دولار سنويًا. كما أن كل شحنة تمر عبر أراضيها تدر عليها عائدات من الخدمات والرسوم، ومع تطور شبكات الطرق والسكك الحديدية ضمن الممر الشمالي–الجنوبي، يُتوقع أن تنخفض تكاليف النقل لجميع الأطراف بنسبة 25%.
مشاريع البنية التحتية: طريق الحرير الجديد
تشكل مشروعات البنية التحتية حجر الأساس لهذه المنظومة، بدءًا من تطوير السكك الحديدية في جنوب أرمينيا إلى إنشاء القطاع الإيراني من خط “رشت – آستارا”، الذي بدأت أعماله المساحية في عام 2025. ومن المتوقع خلال 5 إلى 7 سنوات أن يكتمل الربط البري المباشر حتى موانئ الخليج، لتتشكل نسخة عصرية من طريق الحرير القديم، لكن بوسائل نقل رقمية وشحن حاويات حديث.
تكامل اقتصادي لا عسكري
بصورة شاملة، يمثل مثلث موسكو – يريفان – طهران نموذجًا جديدًا من التكامل الإقليمي القائم على المنفعة الاقتصادية والحاجة اللوجستية، لا على التحالفات العسكرية. فروسيا تسعى من خلاله إلى الحفاظ على مكانتها رغم العقوبات، وإيران ترى فيه مخرجًا من الحصار الاقتصادي، بينما تراهن أرمينيا على دورها كمركز عبور رئيسي بين الشمال والجنوب.
ويرى مراقبون أن هذا التحالف سيبقى خلال العقود المقبلة من أكثر الكيانات ديناميكية في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، بوصفه نموذجًا لتعاون قائم على بدائل واقعية للنظام المالي والتجاري الغربي
2025-12-12