في طبيعة الاشتباك الفكري وحدود السؤال السياسي في لحظة الإبادة!
بقلم : خالد صالح عطية
في مقالها المعنون «المساءلة السياسية بين التحرر والامتثال» الصادر بتاريخ 20/12/2025، قدّمت الدكتورة غانية ملحيس تعقيبًا فكريًا عميقًا على قراءتي لمقالها «نزع السياسة عن التحرر الفلسطيني»، مواصلةً اشتباكًا معرفيًا نادرًا في لحظة فلسطينية يُهدَّد فيها الوجود ذاته، وتُعاد فيها صياغة السياسة والمعنى معًا. لا أتعامل مع هذا الاشتباك بوصفه اختلافًا بين موقفين، بل بوصفه لحظة تفكير مشترك داخل أفق تحرري واحد، لحظة كاشفة لطبيعة الأسئلة التي نطرحها حين نواجه بنية استعمارية لا تترك لنا ترف الفصل بين الوجود والسياسة. ما كُتب هنا، بيني وبين الدكتورة غانية، لا يدور حول شرعية المقاومة ولا حول تعريف العدو، بل حول طبيعة السؤال الذي نوجّهه للفعل السياسي الفلسطيني حين يكون مهددًا بالإبادة، وحين تكون السياسة نفسها مهددة بأن تُختزل إما في إدارة الخسارة أو في يقينٍ مكتفٍ بذاته.
ينطلق مقال الدكتورة من تشخيص بنيوي حاسم: الاستعمار الاستيطاني الإحلالي ليس حدثًا عابرًا يمكن احتواؤه أو تعقيله، بل بنية ممتدة، مغلقة الهوية، مفتوحة الزمن، لا تتعايش مع السكان الأصليين بل تعمل على إزاحتهم ماديًا ورمزيًا وسياسيًا. ضمن هذا الإطار، يصبح الامتثال—مهما تزيّن بخطاب العقلانية والواقعية—أحد أشكال نزع السياسة عن التحرر، وتتحول “إدارة الحياة” تحت الاحتلال إلى آلية لإدامة الخسارة لا لتفكيك شروطها. هذه النقطة، في تقديري، تمثل قلب الأطروحة وأحد أهم إسهاماتها الفكرية، لأنها تعيد تعريف السياسة الفلسطينية بوصفها فعلًا يستهدف البنية لا التكيّف معها.
في هذا السياق، يكتسب نقد تحميل المقاومة مسؤولية الإبادة والتدمير أهمية خاصة. فالعنف الاستعماري هنا ليس ردّ فعل على حدث بعينه، بل ممارسة بنيوية سابقة عليه، تبحث دائمًا عن ذريعة لتفعيل منطق الإلغاء الكامن فيها. وعليه، فإن تحويل الفعل المقاوم إلى سبب للكوارث، بدل النظر إليه بوصفه اشتباكًا مع بنية قائمة أصلًا على الإقصاء، لا يُعدّ قراءة واقعية بقدر ما هو قلبٌ للعلاقة بين السبب والنتيجة، وإعادة توزيع للمسؤولية الأخلاقية على نحو يخدم منطق الهيمنة.
غير أن هذا العمق البنيوي، على ضرورته، يفتح سؤالًا آخر لا يقل مركزية: كيف نحمي السياسة التحررية نفسها من أن تتحول إلى يقينٍ مكتفٍ بذاته، حتى وهي تواجه بنية لا تُفكَّك إلا بالمقاومة؟ هنا لا يتعلّق الأمر بالطعن في شرعية المقاومة أو في ضرورتها الوجودية، بل بالسؤال عن موقع النقد السياسي داخلها: متى يكون النقد أداة تحرر، ومتى ينزلق—حتى دون قصد—إلى تعطيل السؤال باسم الدفاع عن المعنى؟
ما حاولتُ الإشارة إليه في مداخلتي ليس أن التأكيد على شمولية المقاومة ينطوي بالضرورة على نزعة حتمية، بل أن تقديم هذه الشمولية أحيانًا بوصفها معادلة مكتملة قد يضيّق مساحة السؤال السياسي المتعلّق بالفعل المقاوم ذاته: سؤال التوقيت، وإدارة الكلفة، وتحويل التضحية إلى أفق تراكمي، وحماية المجتمع وهو يقاوم، وبناء القدرة على اتخاذ القرار والمراجعة والتصحيح. هذه الأسئلة لا تُطرح من خارج أفق التحرر، بل من داخله، ولا تستهدف نزع الشرعية عن المقاومة، بل صون قدرتها على الاستمرار والمعنى.
وهنا يتضح أن الاختلاف بيني وبين الدكتورة غانية—إن وُجد—ليس اختلافًا في تشخيص العدو أو في طبيعة الصراع، بل اختلاف في زاوية الخوف المعرفي. الخوف الذي تحذّر منه الدكتورة هو خوف مشروع: أن يتحول مطلب “المساءلة السياسية” إلى سؤال استعمارٍ مقنّع من نوع: هل كان يمكن تفادي الإبادة لو لم تُمارَس المقاومة؟ وهو سؤال يبدو عقلانيًا، لكنه بنيويًا ينقل أصل الجريمة من الاستعمار إلى مقاومته، ويُعاد تدويره عالميًا لتجريم الضحية باسم الواقعية. في هذا التحذير أجد نفسي متفقًا معها بالكامل، لأن لحظة الإبادة هي اللحظة التي يُعاد فيها تشكيل المعنى، لا فقط موازين القوة.
في المقابل، خوفي ينطلق من جهة أخرى: أن يؤدي الضغط الأخلاقي والسياسي لهذه اللحظة إلى تعليق أي مساءلة داخلية للفعل المقاوم، أو إلى الاشتباه التلقائي في كل سؤال تفصيلي بوصفه امتثالًا. هذا الخوف لا ينبع من رغبة في “تقويم” المقاومة وفق معايير خارجية، بل من إدراك أن استعادة السياسة بوصفها فعلًا تحرريًا لا تكتمل بنفي الامتثال وحده، بل أيضًا ببناء قدرة واعية على تحويل المقاومة من ضرورة وجودية إلى استراتيجية قادرة على فتح أفق، لا الاكتفاء بدفع الكلفة.
بهذا المعنى، لا يدور الاشتباك بيننا حول ما إذا كانت المقاومة مشروعة—فهذا محسوم—ولا حول ما إذا كان الاستعمار بنية—وهذا أيضًا محسوم—بل حول كيفية إبقاء السياسة حيّة داخل المقاومة نفسها: سياسة لا تُختزل في إدارة الخسارة، ولا تتصلّب في يقينٍ يمنع السؤال، بل تبقى مجالًا مفتوحًا للتفكير، والمراجعة، والتقدير، دون أن تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج خطاب الامتثال.
وأختم بالتأكيد الصريح الذي أراه ضروريًا لتفادي أي سوء فهم: نقد الفعل المقاوم لا يُطرح في لحظة الإبادة بوصفه محاكمة، ولا بوصفه توزيعًا للذنب، ولا بوصفه مساواة أخلاقية بين الجلاد والضحية. إن طُرح، فيُطرح بوصفه تفكيرًا تحرريًا مسؤولًا، يسعى إلى حماية المجتمع وهو يقاوم، وصون المعنى السياسي للمقاومة من الاستخدام ضدها، وبناء قدرتها على التحول من فعل بقاء إلى أفق تحرر. بهذا الفهم، يصبح الاختلاف بيننا اختلافًا داخل المشروع نفسه، لا خروجًا عليه، ويغدو الاشتباك الفكري شحذًا للفكر لا انقسامًا، لأن أخطر ما يمكن أن يصيب مشروعًا تحرريًا في لحظة كهذه ليس الاختلاف، بل توقف السؤال.
2025-12-21