فلسطين بين “النووي” و “المَنَوي”!
وليد عبد الحي
حيث ان التاريخ تصنعه “الاحذية الثقيلة” من منظور المفكر الصهيوني جابوتنسكي، فان فكرة “القوة المفرطة” هي احد ركائز المنظور الاستراتيجي الصهيوني، وهذه الخلفية تقف وراء السعي الصهيوني لامتلك السلاح النووي في وقت مبكر ،فالمفاعل النووي الصهيوني بدأ فعليا في حدود عام 1963، ويرجح ان اول قنبلة نووية اسرائيلية كانت في حدود عام 1967، اي انها تلت الصين بحوالي 3 سنوات وسبقت الهند وباكستان وكوريا الشمالية بعقود.
الجانب الآخر في الاستراتيجية النووية هي تكريس القناعة ان استخدام السلاح النووي ضد اي تهديد “عربي او غيره” هو امر في نطاق الممكن الضروري ، وهو التفكير الذي صاغه احد ابرز المستشارين السياسيين للحكومة الاسرائيلية يحزقيل درور (Yehezkel Dror) في دراسته الشهيرة “الدولة المجنونة”(Crazy State) في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وتقوم نظرية الدولة المجنونة” على “دولة تتميز بخمس سمات:
(1) السعي لتحقيق أهداف عدوانية غالبًا ما تكون مؤذية جدا للآخرين
(2) تكريس القناعة لدى الآخرين بالتزام جذري شديد من الدولة المجنونة بهذه الأهداف
(3) تكريس شعورٍ راسخ بالتفوق الأخلاقي على الآخرين، على الرغم من استعدادها للتصرف بشكل غير أخلاقي ضمن الإطار الدولي المعتاد.(وهو ما نجده في سياساتها الحالية مع لبنان وغزة وسوريا رغم كل الاتفاقات).
(4) إدراك القدرة على اختيار الأدوات المنطقية بعقلانية لتحقيق هذه الأهداف.
(5) امتلاك قدرات فعل خارجية كافية للتأثير على تحقيق الهدف ، وبطبيعة الحال، ستتكيف الدولة المجنونة مع النموذج بدرجات متفاوتة، على سبيل المثال، تُظهر الدولة المجنونة قدرات فعل خارجية مختلفة اعتمادًا على قدرتها على التواصل والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية أيضًا، وقد تكون بعض الدول المجنونة أكثر استعدادًا لانتهاك قواعد السلوك الدولية من غيرها.
ورغم التباين الشديد في تقدير عدد الرؤوس النووية الاسرائيلية (بين 90 و 400 راس نووي)، فان اسرائيل تدعم نظرية ” درور ” من خلال البعد الآخر وهو ” احتكار السلاح النووي” في الاقليم الجيوسياسي الذي تتموضع فيه، ولعل مطاردتها للمشروع العراقي ثم المفاعل السوري والايراني ، ومتابعتها لاي جهد عربي في هذا المجال ، يستهدف التأكيد على ان الجنون يشكل احد ركائز المنظور الاستراتيجي الاسرائيلي. ذلك يعني ان المنظور الاستراتيجي لاسرائيل هو:
أ- أن يبقى العرب ضعفاء سواء في حالة السلم او الحرب وتحت اي ظرف من الظروف
ب- التغلغل في النخب العربية لدفعها باتجاه التفكير في تغييرات وتوجهات وتخطيطات تكرس حالة يصفها بعض كتاب اسرائيل بانها ” الضعف الموهوم بالقوة ” والتخلف الموهوم بالتقدم ” كما هو الحال في بعض دول الخليج..
ت- تكريس فكرة الدولة المجنونة التي اشرنا لها.
من الجانب المقابل ، تدرك اسرائيل بعد أن اتمت السيطرة على الارض الفلسطينية كلها (27 الف و 27كم مربع)، ان العقدة المركزية لها هي “القنبلة الديموغرافية الفلسطينية”، فعدد الفلسطينيين في فلسطين كلها الآن هو 7.5 مليون تقريبا، ، بالمقابل فان عدد اليهود في فلسطين التاريخية هو الآن حوالي 7.3 مليون نسمة.
هذه المسالة الديموغرافية تنطوي على مخاطر كبيرة من المنظور الاستراتيجي الاسرائيلي:
1- ان هذه المسألة لا قيمة للاسلحة النووية ولا لشبح الدولة المجنونة في معالجتها، فهي مشكلة في بنية الكيان الصهيوني ، فقد تهاجم المفاعل النووي لأية دولة ، ولكن كيف تهاجم خصما يتداخل سكانيا معك الكتف بالكتف. وعندما هدد الوزير الصهيوني سموتريتش بضرب غزة بالسلاح النووي كان متأثرا بنظرية الدولة المجنونة ، لكنه لم يدرك ان ضرب غزة بالنووي يعني ان القنبلة ستنفجر على بعد حوالي 4 كيلومترات من منازل بعض المستوطنات الاسرائيلية التي تضم عشرات آلاف المستوطنين في الغلاف وقربه. فإذا علمنا ان القنبلة النووية في حالة تفجيرها تمتد اثارها الى مسافات تصل الى حوالي 100 كيلو متر من نقطة انفجارها (وكلما قصرت المسافة عن نقطة الانفجار كان الضرر اشد )،فإن ذلك يعني ان الانفجار النووي يصل الى تل ابيب التي لا تبعد عن غزة في المسافة الجوية الا 71 كيلومتر، و يصل الى عسقلان(21 كيلو متر) والى بئر السبع حوالي 50 كيلومتر، أما مستوطنة سديروت فلا تبعد عن قطاع غزة الا ما بين 1 الى 1.5 كيلومتر فقط.
2- في الضفة الغربية والجليل الامور اكثر تعقيدا وتداخلا من قطاع غزة، وهو ما يعني ان الدولة المجنونة لا تصلح استراتيجية للتبني مع المشكلةالديموغرافية الفلسطينية .
3- المشكلة الأخرى لاسرائيل هي ان معدل الزيادة السكانية يسير لصالح الفلسطيني (وهو ما اسميناه القنبلة المنوية)، فالفارق في معدل الزيادة السكانية الاجمالي( المواليد والهجرات..الخ) يصل ما بين 0.7 و 1.1% لصالح الفلسطينيين، وهو ما يعني ان عدد الفلسطينيين في عام 2035 سيكون في كل فلسطين حوالي 10.2 مليون فلسطيني مقابل كتلة سكانية يهودية بحوالي 9.6 مليون يهودي، واسقاط ذلك على الفترات المستقبلية مع افتراض ثبات المتغيرات الاخرى يعني اتساع الفارق لصالح الفلسطينيين.
4- ان دمج الفلسطينيين في الدولة اليهودية يعني نهاية هذه الدولة لانهم سيكونون الاغلبية ، وفصلهم بدولة فلسطينية خاصة بهم يعني خلع الاستيطان من الضفة وهو ما يعني حربا اهلية في اسرائيل
5- المشكلة الاخرى لاسرائيل هي فلسطينيي الشتات بخاصة إذا استمرت وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين قائمة وتطالب بحقوقهم، وقد تأتي الظروف لعودة اعداد كبيرة منهم الى الضفة والقطاع في حالة “قيام دولة في الضفة وغزة او غزة فقط)، وهو ما يزيد الخلل الديموغرافي.
6- ما هو المخرج لاسرائيل:
تدرك اسرائيل ان كل تجارب الاستعمار الاستيطاني التي بقي فيها عدد ونسبة السكان الاصليين اكبر من عدد ونسبة المجتمع الاستيطاني الوافد تفكك وانهار في نهاية الامر، وهو ما سيجعل اسرائيل تجعل من “تفكيك القنبلة المنوية ” الفلسطينية احد ركائز استراتيجيتها القادمة.وهو ما قد تعمل عليه من خلال:
أ- افضل خيار هو التهجير الخشن والناعم( استمرار الضائقة الحياتية، زيادة الاغراء الخليجي لجذب اليد العاملة الفلسطينية ، فتح اسواق بخاصة خليجية وآسيوية وافريقية وكندية واسترالية..الخ لامتصاص الفلسطينيين، …الخ.) او بالتهجير الخشن الى دول الجوار العربي وهو ما قد ينطوي على مشكلات لا حصر لها.
ب- اعتبار غزة هي الدولة الفلسطينية مع تقييدها بقيود دولية تجعلها مجرد “ريفيرا”.
ت- استغلال الانهيار العربي لتشجيع الهجرة اليهودية لفلسطين وتخفيف الخلل الديموغرافي.
ث- العمل على اغلاق ملف اللاجئين بطي صفحة وكالة الغوث نهائيا.
ج- احياء فكرة مبادلة املاك اليهود المهاجرين من الدول العربية باملاك الفلسطينيين الذي هاجروا من فلسطين.
7- ذلك يعني ان استراتيجية قوى المقاومة يجب ان تتخذ مواقف معاكسة لكل ما سبق، وذلك بتشجيع الزيادة السكانية بين فلسطينيي الداخل ، والسعي لدى الدول المختلفة لتضييق فرص الهجرة الناعمة اليهم ، ونشر اعلام يحذر من ان الهجرة للخارج ستكون في ظروف صعبة وسيئة جدا، وقد يتم تجنيد المهاجرين في اغراض غير “نظيفة”…كما يجب ان توجه كل المشروعات الاقتصادية بخاصة الإعمار (في حدود المتاح) لتعميق التشبث بالارض..مع استمرار المقاومة باشكالها المختلفة.
2025-11-26