فلسطين بين الانقسام الوظيفي وصعود الشرعية الرمزية بعد الطوفان!
بقلم: خالد صالح عطية
يطرح الواقع الفلسطيني سؤالًا، لا يمكن الالتفاف عليه: هل تشكّلت البنية السياسية–الاجتماعية القائمة بوصفها هندسة مقصودة فرضتها منظومة الهيمنة، أم أنها نتاج سلسلة من الكمائن السياسية التي وقع فيها الفلسطينيون تحت ضغط اللحظة، أم أنها ببساطة المسار الوحيد الذي سمحت به تشابكات السياق العربي والإقليمي والدولي؟ هذا السؤال ليس تمهيدًا بقدر ما هو مدخل إلزامي لفهم اللحظة التي أعقبت الطوفان. فالمنظومة الفلسطينية لم تتبلور داخل فراغ حر، بل تشكّلت ضمن سقف صلب رُسم مسبقًا، سقف لم يصنع شكل البنية فقط، بل صاغ أيضًا حدود الممكن السياسي. ومع أن الفلسطينيين حاولوا—على امتداد العقود—التحرك داخل هذا السقف بطرق مختلفة، من المقاومة المسلحة إلى الدبلوماسية إلى الانتفاضات، إلا أن البنية كانت تعيد ضبطهم في كل مرة، لأن ما يبدو خيارًا ذاتيًا كان في جوهره استجابة اضطرارية لسياقٍ لا يسمح ببدائل واسعة.
ولم يكن الوقوع في هذه البنية نتيجة سذاجة سياسية، بل نتيجة حقل متخم بالإكراهات والإغراءات: إغراء الدولة قبل الدولة، إغراء المؤسسات الممولة، إغراء إدارة الحياة اليومية بدل انتظار الدولة المؤجلة، وإغراء بقاء كل منظومة داخل مجالها الآمن. ومع الوقت، تحوّلت الضرورة إلى عادة، والعادة إلى بنية، والبنية إلى منطق يصعب كسره من داخلها. هكذا يتكوّن المشهد الفلسطيني اليوم: ليس كنتاج قرار واحد أو خطأ واحد، بل كنتيجة تراكم هندسة فوقية، واستجابات فلسطينية مضطرة، وواقع دولي يعيد إنتاج الهشاشة مهما تغيرت الأدوات. وهذا ما يجعل السؤال عن مصدر البنية أقل أهمية من السؤال عن أثرها؛ فالنتيجة واحدة: نظام سياسي لا يمثّل قدرات الشعب، ولا يترجم الشرعية الرمزية المتصاعدة إلى قدرة سياسية
المشهد الفلسطيني بعد الطوفان يكشف شبكة معقدة من البنى التي تعيد إنتاج نفسها رغم الانهيارات والارتفاعات الرمزية الكبرى. ما يظهر من الخارج كجسد ممزق، يظهر من الداخل كنظام متماسك بطريقة سلبية، يعمل وفق منطق وظيفي لا يتغير بسقوط حكومات أو تبدّل نخب. الانقسام الذي يُنظر إليه عادة كخلاف سياسي بين سلطتين، هو في جوهره بنية: غشاء فصل وظيفي، يضمن استمرار كل منظومة ضمن مجالها الخاص ويمنع أي منظومة من التمدد لتصبح مركز الحقل السياسي الفلسطيني.
في الضفة، السلطة الفلسطينية لم تعد مجرد سلطة ضعيفة؛ بل أصبحت نموذجًا مكتملًا للكيان الوسيط. لم تُبنَ لتصبح دولة ولا قيادة تحرر، بل لتدير حياة السكان تحت سقف الهيمنة الإسرائيلية واشتراطات المانحين. كل إصلاح مطروح اليوم—حتى بعد الطوفان—لا يهدف إلى تغيير هذا السقف، بل إلى جعله أكثر انسيابية. وظيفة السلطة قائمة على إدارة الواقع وليس تغييره، وهذا ما يمنحها نوعًا من الاستمرارية الدائمة رغم تآكل شرعيتها. استمرارها لا يعكس قوة داخلية، بل يعكس حاجة الاحتلال والمانحين والنخب إلى بقائها كوسيط يخفف كلفة السيطرة ويضمن الحد الأدنى من الاستقرار الإداري.
أما غزة، فقد وصلت خلال الطوفان إلى أقصى درجات الانكسار المادي، فيما وصلت في الوقت نفسه إلى أقصى درجات القوة الرمزية. دُمِّرت البنية التحتية، انهار الاقتصاد، وتحوّلت غزة إلى مساحة محاصرة لا تمتلك مقومات الدولة ولا القدرة على النهوض السريع. ومع ذلك، أصبحت غزة مركز الشرعية الأخلاقية للرواية الفلسطينية، ومحرّكًا للرأي العام العالمي. المقاومة في غزة أصبحت تحمل ثقل الشرعية الرمزية، لكن هذا الثقل لم يتحول إلى قدرة سياسية؛ فالبنية العسكرية–الإدارية، مهما امتلكت شرعية المعاناة، تظل مكبّلة بالحاجة إلى البقاء في بنية محاصرة، بلا أدوات للتحوّل إلى إطار سياسي جامع. الإبادة جعلت غزة أقوى رمزيًا، لكنها لم تجعلها أقوى سياسيًا.
الشتات، في المقابل، شهد صعودًا غير مسبوق في دوره الرمزي والسياسي الشعبي. لأول مرة منذ عقود، باتت الرواية الفلسطينية هي المسيطرة أخلاقيًا في الشارع العالمي، رغم جمود مواقف النخب الأوروبية والأمريكية. لكن هذه القوة الشعبية العالمية ليست مرتبطة ببنية سياسية فلسطينية قادرة على تفعيلها. الشتات قوة كبيرة بلا قناة مؤسسية. تأثيره أخلاقي، ضاغط، لكنه غير مفعّل. هذا يخلق مفارقة: فلسطين اليوم تمتلك من الشرعية العالمية ما لم تمتلكه منذ 1948، لكنها لا تمتلك بنية سياسية موحدة لتحويل هذه الشرعية إلى سياسة.
في قلب هذه المفارقة يعمل الانقسام كبنية تنتج التوازن السلبي بين المنظومتين. في الضفة، النخبة المتحالفة مع السلطة تستفيد من استمرار الانقسام لأنه يمنع بروز منافس سياسي مسلح أو شرعية بديلة. وفي غزة، بنية المقاومة تستفيد من الانقسام لأنها تمنحها مركزية في السردية الوطنية لا يمكن مشاركتها مع السلطة. الانقسام ليس مجرد صراع على تمثيل؛ إنه تعبير عن اختلاف في مصدر الشرعية، أدوات القوة، طبيعة الدور، شكل الإدارة، علاقة كل طرف بالاحتلال والمانحين، وهو بذلك يخلق مجالين سياسيين غير قابلين للاجتماع إلا إذا تغيّرت البنية نفسها.
هذا التشظي الداخلي يحدث في لحظة صعود خارجي غير مسبوق للرواية الفلسطينية. القوة الرمزية الفلسطينية التي تبلورت عالميًا بعد الطوفان—تحديدًا في الشارع العالمي—لا تجد قناة مأسسة فلسطينية تستثمرها، لأن البنى المحلية في الضفة وغزة ما زالت محصورة في وظائفها التقليدية. السلطة غير قادرة على استثمارها لأنها بنية مقيدة وظيفيًا. المقاومة غير قادرة لأنها بنية محاصرة ماديًا. والشتات غير قادر لأنه بلا مؤسسة وطنية حقيقية تمثله. النتيجة: قوة بلا حامل سياسي، وشرعية بلا هيكل، وسردية بلا مؤسسة.
ضمن هذا التعقيد، يظهر أن الفلسطينيين اليوم يمتلكون كل عناصر القوة الناعمة: شرعية رمزية، دعم عالمي شعبي، سيطرة على الصورة الأخلاقية للصراع، ووضوح كامل لطبيعة الاحتلال. لكنهم يفتقرون إلى العنصر الوحيد الحاسم: وحدة البنية السياسية أو إعادة هندستها. ما لم تتغير بنية الانقسام، وما لم تتحول السلطة إلى جهاز خدماتي محدود الوظيفة بدل ادعاء التمثيل، وما لم تُخرج المقاومة مشروعها من الحصار الجغرافي إلى إطار سياسي أوسع، فإن القوة الجديدة التي اكتسبتها فلسطين بعد الطوفان ستظل قوة معلقة، أخلاقية، رمزية، لا تترجم إلى نتائج استراتيجية.
بهذا المعنى، اللحظة الفلسطينية هي لحظة قوة وضعف في آن:
قوة الرواية، ضعف البنية.
قوة الشارع العالمي، ضعف المؤسسات.
قوة المقاومة الرمزية، ضعف إمكانيات البناء السياسي.
قوة الشعب، ضعف النخب.
وفي قلب كل ذلك يعمل الانقسام كهيكل يعيد ضبط حدود كل منظومة ويمنع أي اندماج أو انفجار بنيوي خارج التحكم. ليست المشكلة في الفاعلين، بل في بنية النظام الذي يجعل كل تحويل سياسي مستحيلًا دون تغيير جذري في موقع السلطة، وظيفة المقاومة، وتمثيل الشتات، وتوزيع الشرعية.
2025-12-14