غياب قسري…!
كتبت :ميسر السردية
في كتابه “هرطقات عن الديمقراطية العلمانية”، يتحدث المفكر جورج طرابيشي عن إشكالية الديمقراطية في العالم العربي، ويطرح تحت عنوان “إشكالية الشرطي ورجل المباحث” وجهتي نظر متخالفتين.
الأولى – ويعتبرها ذات منزع شعبوي – ترى أن المأزق الديمقراطي في العالم العربي هو نتيجة وتحصيل حاصل للقطيعة بين الدولة والشعب، ولانفراد الدولة بتقرير مصائر الشعب دون أن تكون له أية قدرة على التحكم بمقاليدها. وبالتالي، يكون المأزق الديمقراطي نتيجة شبه آلية لطغيان حضور الدولة وغياب أو تغييب السيادة الذاتية للمجتمع المدني.
طرابيشي لا ينكر طراوة عود المجتمع المدني وضيق هامش استقلالية منظماته ومحدودية فاعليتها، فيعتقد أن حضور الدولة ليس وراء المأزق الديمقراطي، بل العكس، إذ جرى “استضعافها وتغييبها”. وفي توصيفه لواقع الدكتاتوريات العربية، لا يرى أن هناك عدوانًا وقع من الدولة على المجتمع المدني، بل العكس؛ فما حدث هو اختطاف للدور، حيث قامت السلطة بالعدوان على الدولة، مما أفضى إلى إعاقتها عن أداء دورها كعامل منظم ومعقلن للاجتماع البشري.
وللخروج من مأزق الازدواجية الخانقة للديمقراطية، التي تشكلت نتيجة ازدواجية السلطة والدولة – اللتين كان يفترض بهما أن تؤلفا “جسدًا واحدًا”، وفق تصوّر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي رأى أن الوظيفة الأولى للدولة تتمثل في القوة التي تحتكر ممارسة العنف الشرعي في المجتمع – يستشهد به هذا التصور لتوضيح الفرق بين الوضع المفترض وواقع الحال العربي.
وبحسبه، فإن الحال في الدكتاتوريات العربية مختلف، إذ كسرت السلطة احتكار الدولة للعنف الشرعي، فمارست العنف لا ضد المجتمع المدني وحده، بل ضد الدولة نفسها إذا اقتضت الضرورة، وبذلك تمت تعرية العنف نفسه من ورقته الشرعية.
يقارن طرابيشي ازدواجية السلطة والدولة بـ”إشكالية الشرطي ورجل المباحث”، فيمثل المأزق الديمقراطي بالشرطي المجرد من سلاحه أمام رجل المباحث، وفي أن المخافر واطئة السقف أمام أقبية الاستخبارات العربية، وفي أن العنف الشرعي لما فوق الأرض مُصادر أو مكفوف عن الأشغال لمصلحة العنف اللاشرعي لما تحت الأرض.
وعلى النقيض من الأطروحات الديمقراطية والشعبوية لبعض المحللين، يخلص إلى أنه ليس من مخرج آخر من المأزق الديمقراطي العربي سوى رد الاعتبار إلى الدولة نفسها، وسلطة القانون، ومبدأ العنف الشرعي.
يختتم قائلًا:
“لا يكفي أن نقول مع القائلين – وما أكثرهم – إن لا ديمقراطية مع رجل المباحث، بل لا بد أن نضيف مع القائلين – وما أقلهم – في زمن غلبة الأطروحات الشعبوية في الساحة الثقافية العربية – إنه لا ديمقراطية أيضًا بدون رجل الشرطة. فالمجتمع المدني نفسه – هذا إن وجد أصلًا – سيرتد إلى غاب فيما لو غابت الدولة.”
مازال هناك كثيرون ممن لا يجدون فرقًا بين الدولة والسلطة ويخلطون بينهما كمفهوم وكيان وأدوار ومهمات وأولويات، سواء كانت سابقة أو لاحقة، ثابتة أو متغيرة، تابعة أو متبعة. ولا ندري إن كان ذلك الخلط عن عمد أو غير عمد.
عموماً، إذا تعرفت على السيدة أمل في عيادة طبيب الاسنان، فلا تفكر أنها شقيقة الأنسة آمال معلمة التربية الفنية أيام طفولتك البريئة .
2025-10-31