غرامة الولادات المتأخرة لعراقيي الخارج: قرار يعاقب الانتماء ويكافئ اللامبالاة!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
منذ مطلع عام 2024، شرعت السلطات العراقية بفرض غرامة مالية قدرها 75 ألف دينار عراقي عن كل شهر تأخير في تسجيل المواليد الجدد، لتصل في بعض الحالات إلى 900 ألف دينار لمن يسجّل ولادة طفله بعد عام من تاريخها. ولئن كان الهدف المعلن من القرار هو “تنظيم السجلات المدنية”، فإن تطبيقه العملي كشف عن خلل تشريعي وإداري خطير، لا سيّما حين تم تخصيص العقوبة لعراقيي الخارج دون الداخل، في سابقة تعكس ازدواجية في التعامل مع أبناء الوطن.
تمييز غير دستوري
إنّ هذا الإجراء يضرب في الصميم مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في الدستور العراقي، إذ يحمّل عراقيي المهجر أعباءً مالية وإدارية لا يتحملها المقيمون داخل البلاد. فالظروف الموضوعية للمغتربين مختلفة تمامًا؛ إذ يواجهون إجراءات طويلة لترجمة وتوثيق وتسجيل وثائق الولادة الأجنبية في السفارات والقنصليات العراقية، وغالبًا ما تتعطل تلك الإجراءات بسبب محدودية الكوادر أو بطء المراسلات الرسمية. فكيف يُعقل أن يتحوّل هذا التعطّل الإداري إلى ذريعة لفرض غرامات جزائية على المواطن؟
سياسة تنفير لا تشجيع
بدل أن تنتهج الدولة سياسة تشجيعية لربط العراقيين في الخارج بوطنهم، نجدها تفرض عليهم غرامات تكاد تكون “ضريبة على الانتماء”. كثير من العوائل العراقية المقيمة في أوروبا وأمريكا وكندا فوجئت بهذه الغرامات عند محاولتها تسجيل مواليدها، ما جعل البعض يتردد في استكمال الإجراءات القانونية العراقية، أو يفضّل الاكتفاء بوثائق الدولة المضيفة. وهكذا، تدفع الدولة – بوعي أو بجهل – أبناءها نحو الانفصال الإداري والوجداني عنها.
أضرار اقتصادية واجتماعية
• أولًا: الغرامة الباهظة تُثقل كاهل العوائل العراقية المغتربة، خصوصًا ذات الدخل المحدود، وتفتح بابًا واسعًا للوساطات والابتزاز الإداري.
• ثانيًا: القرار يُضعف العلاقة القانونية بين المواطن والدولة، لأن كثيرين سيتجنبون تسجيل أطفالهم في السجلات العراقية.
• ثالثًا: على المدى البعيد، سيتسبب الإجراء في فقدان بيانات أجيال كاملة من أبناء العراق في المهجر، مما يضرّ بالتخطيط السكاني والاجتماعي والاقتصادي للدولة نفسها.
• رابعًا: القرار يتعارض مع سياسة الحكومة المعلنة في تشجيع عودة الكفاءات العراقية من الخارج، إذ يشعر المغترب أن الوطن لا يمدّ له يدًا حانية، بل يفرض عليه جزاءات بيروقراطية من أول خطوة.
نقد تشريعي وإداري
ما يزيد الأمر سوءًا أن الغرامة فُرضت بقرار إداري غير مدروس دون إجراء تقييم لأثره الاجتماعي أو الاقتصادي، ودون مراعاة الفارق الزمني والإجرائي بين التسجيل داخل العراق وخارجه. فالمشرّع أو الجهة التي صاغت القرار أغفلت حقيقة أن السفارات العراقية لا تملك منظومة إلكترونية متكاملة تسمح بالتسجيل الفوري، وأنها تعتمد المراسلات الورقية، ما يجعل التأخير أمرًا حتميًا لا مقصودًا.
نحو تعديل منصف
إن إصلاح هذا الخلل لا يحتاج سوى إلى إرادة تشريعية رشيدة تُعيد النظر في القرار وفق المبادئ التالية:
1. إلغاء الغرامة عن عراقيي الخارج، أو استبدالها برسم رمزي لا يتجاوز كلفة الإجراءات.
2. منح فترة سماح لا تقل عن عامين لتسوية أوضاع الولادات السابقة بلا عقوبات مالية.
3. توحيد المعايير بين الداخل والخارج لضمان العدالة والمساواة.
4. رقمنة نظام تسجيل الولادات في السفارات والقنصليات لتفادي التأخير والازدواجية.
خاتمة
إن القرارات غير المدروسة لا تُظهر “هيبة الدولة” بل تُظهر عجز إدارتها عن فهم واقع مواطنيها. ومتى ما استمرت البيروقراطية في معاقبة المغترب على بعده القسري، فلن يجد العراقي في الغربة ما يدعوه للتمسك بأوراق وطنٍ لا يعترف بمعاناته. إنّ الانتماء لا يُقاس بالرسوم والغرامات، بل بالثقة التي تمنحها الدولة لأبنائها أينما كانوا.
2025-11-10