دانتيل من حرير ودم:
كيت إيفانز تعيد حياكة أسطورة جين أوستن في ذكراها الـ 250
مقاربة غرافيكية لسيرة الروائية الإنجليزية الأهم بصورتها الحقيقية: امرأة تخيط ثوب حياتها وأدبها من قصاصات الواقع الصعب
سعيد محمد *
بحلول عام 2025، يمر ربع ألفية (250 عاماً) على ميلاد الروائية الإنجليزية جين أوستن (1775-1817). وفي حين تنشغل الأوساط الأدبية في العالم الأنجلوساكسوني بالاحتفالات التقليدية عبر الطبعات الفاخرة وحفلات الشاي، اختارت الكاتبة والرسامة كيت إيفانز مساراً مغايراً تماماً: كتاب غرافيكيس، تتجاوز فيه نمط السير الذاتية المعتاد، لتقدم بدلاً منه عملية تشريح بصري وسردي لحياة أوستن، كاشفةً عن المادة الواقعية التي نسجت منها أدبها: الفقر المدقع، والعمل النسائي الشاق، وخيوط القطن الملطخة بدماء العبودية في المستعمرات.
فن “الترقيع”: إعادة بناء الذاكرة المفقودة
يعتمد كتاب إيفانز”Patchwork: A Graphic Biography of Jane Austen” في عنوانه وبنيته الفنية على استعارة “اللحاف” (Quilt) الذي صنعته جين أوستن في سنواتها الأخيرة ليكون بمثابة هيكلية ناظمة لبناء السيرة؛ فكما جمعت نساء عائلة أوستن قصاصات الأقمشة لصنع غطاء دافئ، عمدت إيفانز إلى جمع “قصاصات” الأرشيف التاريخي المبعثر لتصوغ الحكاية.
وبما أن كاساندرا أوستن أحرقت غالبية رسائل أختها، فإن ما تبقى للمؤرخين مشوب بالثقوب والفجوات التي تحولها إيفانز إلى مساحة للإبداع الفني، دامجةً المقتطفات النادرة من رسائل قليلة نجت مع مشاهد من الروايات، لتصنع في النهاية رقعة سردية جديدة تعيد تشكيل حياة الكاتبة الشهيرة، وكأنها ترفع من شأن “الترقيع” ليكون منهجاً للكتابة التاريخية عن النساء اللواتي غُيبت أصواتهن في السجلات الرسمية.
واقعية مادية: جين أوستن من لحم ودم
تستبدل إيفانز الصورة الرومانسية الشائعة عن أوستن في الثقافة الشعبية بصورة أخرى أكثر خشونة وواقعية، مستندة إلى قراءة ماركسية ونسوية. فتظهر هنا امرأة تعيش في قلب الصدمة التي عاشتها فئات من الطبقة المتوسطة العليا الإنجليزية التقليدية حين كانت تناضل للحفاظ على المظاهر الاجتماعية مع افتقارها للمال.
تظهر الرسومات هيمنة القوانين الاقتصادية الصارمة على عالم أوستن؛ فالزواج هنا صفقة تجارية ضرورية، بل هو آلية بقاء للنساء اللواتي يفتقدن حق الإرث. وعبر تحويل عقود الزواج إلى دفاتر حسابات بصرية، تثبت إيفانز أن شخصيات مثل شارلوت لوكاس – رواية كبرياء وهوى – تمثل واقع أغلبية من النساء اللواتي يشكلن جيشاً احتياطياً في سوق الزواج، حيث القبول بأي عرض هو السبيل الوحيد للأمان.
كذلك، يركز الكتاب على العمل المنزلي بوصفه شكلاً من أشكال الإنتاج الاقتصادي. تُبرز الرسوم التوضيحية الأيدي النسائية في حالة عمل مستمر: خياطة، طبخ، وكتابة في الخفاء. هذا “الاقتصاد المنزلي” هو الركيزة التي استندت إليها الطبقة المتوسطة للظهور بمظهر الرفاهية، وهو جهد ظل “غير مرئي” تاريخياً، تماماً كجهد جين أوستن نفسها التي كتبت روائعها وسط ضجيج الحياة العائلية ومسؤولياتها.
ظلال استعمارية: شبكة الاقتصاد العالمي
تتوسع عدسة الكتاب لتشمل سياق نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، رابطةً بين رفاهية بطلات أوستن بفساتينهن الرقيقة، وبين التحولات الصناعية والاستعمارية العنيفة في العالم. تتبع إيفانز أصول هذه المواد، خالقةً طبقة سردية تكشف الجذور الاستعمارية للرفاهية، فتكشف الرسوم المسار الطويل لأقمشة الموسلين والشينتز، بدءاً من النساجين في “دكا”، مروراً بمصانع القطن في “لانكشاير” وعمالة الأطفال، وصولاً إلى حقول القطن في الجنوب الأمريكي والعبودية، كما تربط بوضوح بين ثروات شخصيات مثل السيد دارسي – رواية كبرياء وهوى – وعائلة أوستن نفسها وبين عوائد الاستثمارات في جزر الهند الغربية ومنظومة العبودية القاسية في الكاريبي.
بذلك، تصطف السيرة الذاتية لتكون نقداً للنظام الرأسمالي العالمي يظهر الرفاهية الإنجليزية في عصر الوصاية وقد قامت على أكتاف أجساد كادحة في الضفة الأخرى من العالم.
سرد بصري مفعم بالحياة
تختار إيفانز الحيوية والطاقة بديلاً عن الجمود التاريخي. تفيض رسوماتها بالحركة، وتستخدم اللون كأداة سردية مقصودة؛ فقد لونت معطف الأخ المفضل “هنري” بالقرمزي بدلاً من الأزرق التاريخي، مفضلةً الوفاء للإشارة الأدبية في رواية كبرياء وهوى على الالتزام بالحقيقة التاريخية الجافة. كما وظفت تقنيات الكولاج، دامجةً صور المخطوطات وقصاصات القماش داخل الكادرات المرسومة، مما يعزز فكرة “الترقيع” ويمنح القارئ شعوراً بملمسٍ للتاريخ، وتدعوه للتوقف وتأمل التفاصيل الدقيقة الممتعة – كزجاج النوافذ وتطريز الدانتيل-.
تصحيح ضروري
في ذكرى مرور 250 عاماً على ميلادها، يأتي كتاب “Patchwork” ليثبت أن جين أوستن صوت معاصر وضروري. إنها شاهدة ذكية على عصر تحولات كبرى، رصدت الفجوات الطبقية وانسحاق النساء في المنظومة البطريركية والقلق الاقتصادي الذي يهدد الطبقة المتوسطة.
كيت إيفانز، بدمجها المتقن بين البحث التاريخي الرصين، والنقد السياسي اللاذع، والسرد البصري الساحر، قدمت الروائية الإنجليزية الأهم بصورتها الحقيقية: امرأة تخيط ثوب حياتها وأدبها من قصاصات الواقع الصعب.
إن هذا الكتاب يتجاوز كونه هدية ثمينة لمحبي أوستن، ليكون نواة حركة تصحيحية تعيد للكاتبة مكانتها كواحدة من ألمع العقول التي حللت “اقتصاد العاطفة”، حيث وراء كل زواج قصة مال، ووراء كل ثوب حريري قصة شقاء. قراءة أوستن اليوم تتطلب رؤية هذه الخيوط مجتمعة في رقعة واحدة معقدة.
*Patchwork: A Graphic Biography of Jane Austen by Kate Evans, Verso, 2025
يمكنكم متابعة الكاتب عبر صفحته على تطبيق Substack من خلال الرابط
التالي:
https://substack.com/@counterculture68
– لندن

2025-12-20