حينما يمسك مغني الراب ممداني بمفاتيح نيويورك ….
وأسئلة أخرى
بقلم بكر السباتين..
ربما كان انتخاب زهران ممداني عمدةً لنيويورك لا يستحق كل هذه الضوضاء من حوله لولا علاقة ذلك بمواقفه إزاء القضية الفلسطينية وتمسكه بفكرة تجريم “إسرائيل” وتمسكه بأصوله وديانته الإسلامية معبراً عن نبض الشارع النيويوركي باقتدار ضد سياسات ترامب الرعناء.
الطيور المهاجرة لا تستنجد في الملمات إلا بمتون الرياح العاتية التي تحملها نحو المنافي فتستقبلها مدن كبيرة متخمة بحكايات تعبر عن ثنائية الإخفاق والنجاح، الاضطهاد والحرية.. الفردية النفعية وقيم التعاون.. كما هو الحال مع الشاب اليافع زهران ممداني، السياسي الأمريكي من أصول هندية وأوغندية، الذي يشغل منصب عمدة مدينة نيويورك منذ يناير 2025، ويُعد أول مسلم يتولى هذا المنصب في تاريخ المدينة.
إنه الشاب الثلاثيني الذي تفجرت طاقاته عبر مسيرة متنوعة دالية القطوف فاستعجلت الظروف المحيطة به قطافها، لتجأر حنجرته بشعارات الحرية لفلسطين، عبر المسيرات الرافضة لحرب الإبادة على غزة أو تطالب بالتغيير في بلاده أمريكا، أو التي شارك فيها المصريين من قبل في سياق ثورة 25 يناير عام 2011 بميدان التحرير، حتى غادر مصر قاطعاً دراسته في مجال اللغة العربية بطلب من والده حرصاً على سلامته.
ثم يتجدد عطاؤه من خلال طاقة التغيير التي عبر عنها بغناء الراب الذي أثرى أسهمه لدى الشباب وقد احتفوا بنجاحه معتبرين ذلك نصراً لرؤيتهم التجديدية.
وُلد زهران ممداني في 18 أكتوبر 1991 في كمبالا، أوغندا، ونشأ في بيئة متعددة الثقافات بين كيب تاون ونيويورك.. وقد تعرضت العائلة لاضطهاد عنصري في عهد الرئيس الأوغندي باعتبارها هندية الأصل فتم طردها. ومن يومها أدمن زهران التحليق مهاجراً غير آبه بالمسافات.. وصار على وفاق مع الرياح فتتبنى ترحاله حتى استقر به الحال ببلاد العم سام في سن مبكرة.. وحصل على الجنسية الأمريكية عام 2018.
درس في كلية بودوين وتخصص في الدراسات الإفريقية، مما يعكس اهتمامه المبكر بالقضايا الاجتماعية والهوية السياسية؛ لذلك كلما تعمق في هموم أهل نيويورك.. تجذرت صلته بأصوله الأفريقية وديانته الإسلامية (المقترنة بعد 11 أيلول بالإسلامفوبيا)، فخرج بهذا الخليط النابض بالإنسانية والتنوع والحياة فتتشكل هويته، ويتمترس خلفها بثبات ضد العنصرية البيضاء التي يتشدق بها الطاؤوس الأشقر، ترامب.
بدأ زهران نشاطه السياسي كناشط اجتماعي ومستشار إسكان، ثم انتُخب عضوًا في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك عام 2021.. وهو عضو في الحزب الديمقراطي، ويمثل الدائرة السادسة والثلاثين في جمعية ولاية نيويورك ممثلًا عن حي أستوريا في منطقة كوينز منذ عام 2021.. وعُرف زهران بمواقفه التقدمية الإشتراكية، خاصة في دعم العدالة الاجتماعية والقضية الفلسطينية.
في عام 2025، خاض انتخابات عمدة نيويورك وفاز بها، ليصبح أول مسلم يتولى هذا المنصب، متفوقًا على منافسين بارزين تطاردهما شبهات الفساد المالي والأخلاقي، مثل أندرو كومو وكيرتس سليوا.
ولعل أكثر ما يميز زهران ممداني هو أنه يمثل جيلًا جديدًا من السياسيين الذين يجمعون بين الفكر، والفن، والنضال الاجتماعي، ويُعد نموذجًا ملهمًا للشباب المسلم والمهاجرين في بلاد العم سام.. حيث برزت أولوياته كعمدة على نحو:
حل أزمة السكن، وخفض تكاليف النقل، ودعم الفئات العاملة، أيضاً تعزيز العدالة العرقية والدينية.
وهي طموحات قد تتعرض لعوائق مادية توعد بها ترامب من باب إفشال تجربة ممداني الاشتراكية غير المعتادة على صعيد أمريكي.
كما يُعرف ممداني بدعمه القوي للقضية الفلسطينية، ويُعد من الأصوات النادرة في السياسة الأمريكية التي تتبنى هذا الموقف علنًا.
والجدير بالذكر أن ممداني ليس سياسيًا فقط، بل أيضًا مغني راب، استخدم الفن كوسيلة للتعبير عن قضايا المجتمع الأمريكي المتنوع، وخاصة ما يتردد منها في عقول الشباب ووجدانهم.. إذْ يجمع بين العمل السياسي والفني، ويؤمن بأن الثقافة يمكن أن تكون أداة للتغيير نحو الأفضل بعيداً عن الأفكار العنصرية المعلبة التي يتبناها ترامب واليمين المتطرف الذي يمثل الطيف الأوسع لدى الجمهوريين.
استخدم ممداني موسيقاه كمنصة للحديث عن قضايا مثل العنصرية، والهوية الثقافية، والانتماء.. ويمزج في أسلوبه الفني بين الهيب-هوب العالمي والتأثيرات الموسيقية من جذوره الأوغندية والهندية، مما يمنح أغانيه طابعًا فريدًا تستسيغه عقول الشباب الباحث عن التغيير.
ولعل أغنيته: “ناني” تعكس خلفيته الثقافية كونها تتناول موضوعات ثورية مثل الهوية والانتماء.
تعددت مصادر الإلهام لهذا السياسي الصاعد، ما بين شخصيات ظهرت في حياته، ومفكرين سياسيين استحوذوا على تفكيره، وقضايا تصدى لها بضميره الحي، على صعيدين عالمي ومحلي من منطلقات إنسانية وحقوقية مدنية.. ولنبدأ بما يلي:
أولاً:-والداه.. فوالده محمود ممداني، الأستاذ الجامعي، هو مفكر سياسي متخصص في قضايا ما بعد الاستعمار والهوية، وقد أثّر في زهران من خلال رؤيته النقدية للعالم، واهتمامه بالعدالة والحقوق المدنية.
ممداني الأب يرى أن فهم السياسة لا يكتمل دون فهم التاريخ والثقافة، ويؤمن بأن الاستعمار ترك آثارًا عميقة على المجتمعات الإفريقية، ولا تزال تُشكّل واقعها حتى اليوم. عاش حياته متنقلًا بين القارات، لكنه ظل مرتبطًا بقضايا العدالة والهوية والحرية الفكرية.
ممداني الابن من جهته، صرّح في أكثر من مناسبة أن والده علّمه أن يرى السياسة كوسيلة لتحرير الإنسان، وليس فقط كمنصب أو سلطة.
أما والدته ميرا ناير، المخرجة السينمائية الشهيرة فقد ألهمته القدرة على الوقوف أمام عدسة التصوير ومخاطبة الجماهير العريضة بكافة واقتدار على قاعدة العدالة والتنوع الديمغرافي.. في مدينة المهاجرين.. نيويورك.
ثانياً:- إيمانه بالفكر الاشتراكي كحل موضوعي للأزمات التي تعانيها أمريكا، من خلال انتمائه للتيار التقدمي الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي، وهو تيار يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويعارض سياسات النخبة التقليدية داخل الحزب (عرض الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق باراك أوباما للعمل في فريق ممداني كمستشار).
وأبرز الشخصيات التي ألهمته عبر هذا التيار:
- بيرني ساندرز: السيناتور المستقل عن ولاية فيرمونت، والمرشح الرئاسي السابق، إذْ يُعتبر من أبرز رموز الاشتراكية الديمقراطية في أمريكا.. ممن دعوا إلى الرعاية الصحية الشاملة، والتعليم المجاني، والعدالة الاقتصادية، وهي قضايا تبناها زهران بقوة، وشكلت بالنسبة له المنطلق الاشتراكي لسياسته.
- ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز (AOC): عضوة الكونغرس عن نيويورك، وواحدة من أبرز الأصوات الداعمة له والتي أشاد بدورها في تعزيز قاعدته الانتخابية، كما وأنها فتحت له الآفاق السياسية في نطاقها الأوسع.
ثالثا:- على صعيد إنساني، فتأتي حرب الإبادة على غزة التي غيرت العالم لصالح السردية الفلسطينية، وقد اتخذ زهران موقفًا صريحًا وشجاعًا ضد حرب الإبادة في غزة، ووجّه انتقادات علنية ل”إسرائيل”، واعتبر ما يحدث “إبادة جماعية بحق الفلسطينيين”، كما طالب باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا دخل نيويورك.
ويُعد ممداني من أبرز السياسيين الأمريكيين الذين دعموا علنًا وقف إطلاق النار في غزة، ووجّهوا انتقادات مباشرة للسياسات الإسرائيلية، وحينما سئل عن موقفه من حماس أدرك أنه فخ كان عليه أن يتجاوزه بدبلوماسية.. رغم أنها كبوة تسجل عليه حينما ساوى بين الجلاد والضحية.
ففي مقابلة مع CNN، قال:
“لا يمكن لأي اتفاق أن يمحو المآسي التي عاشها الناس، سواء كانت جريمة الحرب التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر، أو الإبادة الجماعية التي نفذتها إسرائيل بحق الفلسطينيين”
لكنه مقابل ذلك، وصف نتنياهو بـ”مجرم حرب” في مقابلة مع نيويورك تايمز، متعهداً باعتقاله إذا زار مدينة نيويورك، وإنه سيأمر شرطة المدينة باعتقاله بناءً على مذكرة المحكمة الجنائية الدولية.
ويسجل لزهران ممداني دعمه حركة BDS (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على “إسرائيل”)، مما يعكس موقفًا حازمًا ضد سياسات الاحتلال.
لذلك، تلقى زهران دعمًا واسعًا من الجاليات العربية والإسلامية في أمريكا، واعتُبر فوزه “انتصارًا رمزيًا” لفلسطين في قلب أكبر قلاع اليهود في بلاد العم سام، حيث دعمه أكثر من ثلث يهود نيويورك، وهذا يؤكد ما قاله ترامب لموقع دايلي كولر في سبتمبر الماضي: إن إسرائيل قد تكسب الحرب، لكنها تخسر معركة العلاقات العامة عالمياً، وإن هذا يضر بها.
مضيفاً: أنه كان لإسرائيل أقوى جماعة ضغط رآها، وكانت لديها سيطرة تامة على الكونغرس؛ لكنها فقدت ذلك الآن.
رابعاً:- تعتبر سياسات ترامب التي أدت إلى الإغلاق الحكومي، وتضييقها على المهاجرين الذين يشكلون المكون الأكبر لمدينة نيويورك، من أهم دوافع ممداني نحو التغيير الجذري وتصديه لسياسات ترامب العنصرية التي تمجد أمريكا البيضاء، وتتجاوز الديمقراطية التي شرعها دستور 1787 ووثيقة الحقوق التي أقرت لاحقًا في1791.
لكن ممداني استدرك موقفه من الرئيس ترامب في أنه سيقدره إذا نجح في إنهاء حرب الإبادة على غزة، بشرط أن يكون الاتفاق حقيقيًا ويُنفذ فعليًا.
لذلك يُعد موقفه تحولًا نادرًا في الخطاب السياسي الأمريكي، حيث كسر حاجز الصمت حول ما يجري في غزة، وعبّر عن تضامن واضح مع الفلسطينيين، مما جعله رمزًا سياسيًا وإنسانيًا في نظر الكثيرين.
في المحصلة فإن فوز زهران بمنصب عمدة المدينة يعتبر مؤشراً على انخفاض شعبية ترامب وحزبه الجمهوري الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة الكونغرس عبر ما يُعرف بـ”إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية”، وهي ممارسة تهدف إلى تعزيز فرص الفوز في الانتخابات النصفية 2026 والرئاسية 2028.. وهي خطوة أثارت ردود فعل قوية من الديمقراطيين الذين اتهموا الجمهوريين بالتلاعب العدواني بالدوائر الانتخابية، خاصة في ولايات مثل فرجينيا ونيويورك وإلينوي.
فهل يحقق مغني الراب ممداني الذي يمسك بمفاتيح مدينة نيويورك طموحات الأمريكيين وخاصة فئة الشباب التي تحتفي به.
9 نوفمبر 2025