ترامب يريد هدنة في عيد الميلاد:
واشنطن تمهل كييف أياماً لقبول صفقة التسوية
تحت وطأة التقدم الروسي على الأرض وإنذار واشنطن لزيلينسكي بقبول تسوية خلال أيام بغرض التوصل إلى هدنة مع أعياد الميلاد، يخوض الأوروبيون المهانون من ترامب سباقاً محموماً لتأمين تمويل حيوي لكييف عبر السطو على أصول روسية محتجزة لديهم
سعيد محمد*
دخلت الحرب الأوكرانية منعطفاً حاسماً قد يكون الأخطر منذ اندلاع القتال قبل أربع سنوات، حيث تتشابك الضغوط العسكرية الروسية المتصاعدة مع حراك دبلوماسي أمريكي يتسم بالحدة، ومساعٍ أوروبية محمومة لتأمين مظلة مالية لكييف قبل فوات الأوان.
ويواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما وصفته المصادر الغربية بـ”أيام الحسم”، وسط إنذار أمريكي صريح بضرورة القبول بتسوية سياسية قبل حلول عيد الميلاد، في وقت تسابق فيه بيروقراطية الاتحاد الأوروبي في بروكسيل الزمن لفرض أمر واقع مالي عبر تجميد الأصول الروسية بتجاوز الفيتو المجري وتحفظات أمريكية محتملة وتمنع باريس عن شمول ما تحتجزه من تلك الأصول في بنوكها.
ونقلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسالة واضحة وغير قابلة للتأويل إلى القيادة الأوكرانية: الوقت ينفد. ووفقاً لمسؤولين مطلعين على المحادثات بين الجانبين، فقد حمل المبعوث الخاص لترامب، ستيف ويتكوف، وصهره جاريد كوشنر، هذا الإنذار مباشرة إلى زيلينسكي خلال اجتماع مطول استمر لساعتين يوم السبت الماضي. وتضمن الموقف الأمريكي مهلة زمنية قصيرة جداً، أياماً فقط، كي توافق كييف على مقترح التسوية المطروح.
وتشير التفاصيل المسربة إلى أن الجدول الزمني الذي وضعه البيت الأبيض يهدف إلى إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار بحلول عيد الميلاد. وتتطلب الصفقة من أوكرانيا تقديم تنازلات إقليمية مؤلمة وقبول خسارة أراضٍ تسيطر عليها روسيا حالياً، مقابل “ضمانات أمنية أمريكية” لا تزال غير محددة المعالم بدقة. وقد وجد المفاوضون الأوكرانيون أنفسهم، وفق وصف مسؤول غربي، عالقين بين مطالب إقليمية يستحيل قبولها سياسياً، وبين إدارة أمريكية لا يمكن رفض طلباتها في ظل الاعتماد – شبه الكلي – العسكري عليها.
وعلى الرغم من الضغوط، أشار زيلينسكي إلى تحقيق بعض التقدم في تعديل الخطة الأمريكية الأصلية التي كانت تتألف من 28 بنداً، وتضمنت صيغاً وصفها بأنها “معادية لأوكرانيا تمت صياغتها وفق المطالب الروسية العالية”. وقد تم تقليص الخطة حالياً إلى 20 بنداً تعتبر أكثر قبولاً نسبياً لنظام كييف، لكن الجوهر المتعلق بالأرض لا يزال عقبة كأداء. وقد صرح الرئيس الأوكراني عبر تطبيق “واتساب” للصحفيين بأن الأمريكيين يبحثون عن تسوية سريعة اليوم، مؤكداً في الوقت ذاته حاجته للتشاور مع الحلفاء الأوروبيين لتجنب تصدع الوحدة الغربية إذا ما مضت واشنطن منفردة في ذلك الاتجاه.
الضغوط الدبلوماسية على نظام زيلينسكي تزامنت مع واقع عسكري قاتم تعيشه القوات الأوكرانية على الأرض. فقد صعدت القوات الروسية هجماتها بشكل منهجي على البنية التحتية للطاقة، محققة في الوقت نفسه مكاسب ميدانية ثابتة ومكلفة في الجنوب الشرقي. وتتركز العمليات الروسية حالياً في منطقة دونيتسك، التي تضغط واشنطن وموسكو على كييف للتنازل عنها كجزء من الصفقة.
وتشير التقارير الميدانية إلى أن القوات الروسية أحكمت سيطرتها على أجزاء واسعة من معقل “بوكروفسك” الاستراتيجي، وباتت تهدد مدينة “ميرنوغراد” التابعة لها بشكل مباشر. ويحمل سقوط هاتين المدينتين دلالات خطيرة؛ إذ سيوجه ضربة قاصمة لمعنويات كييف، ويمنح الجيش الروسي منصة انطلاق لشن هجمات في عمق المنطقة.
وفي سياق متصل، اتهم مسؤولون أوكرانيون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم ادعاءات كاذبة لترامب حول السيطرة الكاملة على هذه المدن لإقناعه بأن الجيش الروسي قوة لا يمكن إيقافها، ما كان تماهى معه ترامب في مقابلته التلفزيونية الأخيرة حين صرح بأن زيلينسكي “يخسر” وعليه “القبول بالأمر الواقع”.
وعلى البر الأوروبي، يخوض بيروقراطيو بروكسيل معركة لا تقل ضراوة، ولكنها ذات طابع مالي وقانوني، إذ تسعى بعض الدول الأعضاء تقودهم ألمانيا لتمرير قرار سريع يقضي بتجميد الأصول السيادية الروسية “إلى أجل غير مسمى”، وذلك في محاولة استباقية لقطع الطريق على فيتو متوقع من رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قبل قمة القادة الأوروبيين المقررة الأسبوع المقبل.
وتتمحور الخطة الأوروبية حول تفعيل “المادة 122” من معاهدات الاتحاد الأوروبي والتي تمنح صلاحيات طوارئ للتعامل مع الأزمات الاقتصادية وتسمح بتجاوز مبدأ الإجماع (الفيتو)، والاكتفاء بالأغلبية المؤهلة. ويهدف هذا التحرك إلى خلق ورقة ضغط أوروبية في مفاوضات السلام التي تقودها الولايات المتحدة، وضمان تدفق الأموال إلى نظام كييف.
وتتعلق المعركة بمبلغ ضخم يصل إلى 210 مليار يورو من الأصول الروسية المجمدة التي اقترحت المفوضية الأوروبية استخدامها ضمانة قرض لكييف بقيمة تصل إلى 90 مليار يورو على مدار العامين المقبلين. وتكمن المعضلة في أن آلية العقوبات الحالية تتطلب تجديداً دورياً كل ستة أشهر بإجماع الدول الـ27، وهو ما يستخدمه أوربان ورقة مساومة دائمة، ويهدد الآن باستخدامه لعرقلة التمويل تماشياً مع رغبة إدارة ترامب التي قد تقرر رفع العقوبات المفروضة على روسيا بشكل أحادي.
ويواجه مخطط “السطو” الأوروبي تعقيدات تقنية وقانونية داخلية. إذ تظهر بلجيكا، التي تحتضن مؤسسة “يورو كلير” – التي تحتفظ ب 185 مليار يورو من مجموع هذه الأصول -، كطرف معني أساس متوجس من المخاطر. وتعارض الحكومة البلجيكية تحمل العبء القانوني والمالي وحدها في حال رفع العقوبات ومطالبة روسيا بالتعويضات، وتطالب بضمانات حديدية بتوزيع المخاطر على جميع الدول الأعضاء.
وفي سياق متصل، تتزايد الضغوط على فرنسا للإفصاح عن تفاصيل أصول روسية بقيمة 18 مليار يورو محتجزة في مصارف تجارية فرنسية، وهو ما ترفضه باريس حتى الآن متذرعة بـ”سرية العملاء”. وتعتبر هذه الأموال ثاني أكبر كتلة أصول مجمدة في أوروبا، وتصر بلجيكا على ضرورة شمولها في أي آلية قرض لضمان العدالة وتوزيع المخاطر، في حين تشير التقارير إلى أن الجزء الأهم منها موجود لدى بنك “بي إن بي باريبا”. ويخلق هذا التعتيم الفرنسي توتراً مع العواصم الأوروبية الأخرى التي ترى في الشفافية ضرورة قصوى لنجاح خطة القرض لكييف.
التطورات المتسارعة لم تقتصر على الكواليس، بل انفجرت علناً في حرب كلامية عكست عمق الهوة بين واشنطن وحلفائها التقليديين. فقد شن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هجوماً لاذعاً على القادة الأوروبيين، واصفاً إياهم بـ”الضعفاء” الذين “لا ينتجون شيئاً”، ومعتبراً أن القارة تواجه “اندثاراً حضارياً” بسبب سياسات الهجرة، وذلك في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة وفي مقابلة صحفية متلفزة.
أثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة في أوروبا. ففي ألمانيا، خرج المستشار فريدريش ميرتس عن الدبلوماسية المعهودة، واصفاً أجزاء من الوثيقة الأمريكية بأنها “غير مقبولة”، ومؤكداً أن أوروبا ستتدبر أمر حماية ديمقراطيتها بنفسها إذا لزم الأمر، ومذكراً واشنطن بأن “أمريكا أولاً لا تعني أمريكا وحدها”. ومن جانبه، طالب رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا الرئيس الأمريكي بـإظهار شيء من “الاحترام”، مشدداً على ضرورة التعامل بين الحلفاء بندية واحترام للخيارات الديمقراطية للشعوب.
في ظل هذه الأجواء المشحونة، جاء اجتماع لندن يوم الاثنين الماضي الذي جمع زيلينسكي بنظرائه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، كمحاولة لتوحيد الصف الأوروبي وتنسيق المواقف قبل الرد على المقترح الأمريكي للتسوية. وقد أعرب الرئيس الأوكراني خلال الاجتماع عن مخاوفه العميقة من أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن خطة “قرض التعويضات” المدعوم بالأصول الروسية، خشية إغضاب واشنطن التي نصح مسؤولوها العواصم الأوروبية بعدم التصرف بالأصول قبل التوصل إلى خطة سلام.
يرى زيلينسكي أن أي تراجع أوروبي عن الدعم المالي سيتركه مكشوفاً تماماً أمام الضغوط الأمريكية للقبول بتسوية مجحفة،وقال بأن “المكونات الأوكرانية والأوروبية” للحل قد تمت مناقشتها، وأنه جاهز لتقديمها للشركاء في أمريكا، في محاولة لكسب الوقت وتعديل شروط التفاوض.
هذا وتزيد التوترات الجانبية من تعقيد المشهد الأمني الأوروبي، حيث أعلنت ليتوانيا حالة الطوارئ في عموم البلاد بسبب ما وصفته بـ”الحرب الهجينة” التي تشنها بيلاروسيا وروسيا عبر إرسال مئات بالونات التهريب التي أدت لإغلاق المطارات وتهديد الملاحة الجوية. وتنظر دول البلطيق والناتو إلى هذه الحوادث، بالإضافة إلى الهجمات السيبرانية وأعمال التخريب، كجزء من استراتيجية روسية أوسع لزعزعة استقرار الجناح الشرقي للحلف وتشتيت الانتباه الغربي.
إذن يقف الغرب خلال الأيام القليلة المقبلة – التي وصفها المستشار الألماني بأنها “حاسمة للجميع” – أمام مفترق طرق تاريخي: إما الرضوخ لجدول ترامب الزمني وقبول سلام الأمر الواقع الذي يكرس السيطرة الروسية، أو المخاطرة بصدام دبلوماسي واقتصادي كبير عبر الأطلسي من خلال تثبيت العقوبات وتمرير القروض، في وقت تستمر فيه القوات الروسية بقضم الأرض الأوكرانية متراً بعد متر، بانتظار صافرة النهاية التي يريد ترامب لها أن تطلق في عيد الميلاد.
————-
الجدول الزمني
سباق مع الزمن على جانبي الأطلسي:
————
(14 ديسمبر 2025): انتهاء المهلة الأمريكية
الموعد النهائي غير الرسمي لرد كييف على “إنذار ترامب”. على مقترح تسوية “الـ 20 بنداً” (المقترح الأمريكي بعد التعديل).
11-14 ديسمبر 2025: مشاورات تفعيل “المادة 122”
مداولات محمومة لتفعيل آلية الطوارئ الأوروبية لتجميد الأصول الروسية بغرض تجاوز فيتو هنغاري محتمل و”تحصين” العقوبات على روسيا قبل أي قرار أمريكي برفعها.
15 ديسمبر 2025: قمة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل
في حال نجاح تمرير “تجميد الأصول” هذا الأسبوع، ستركز القمة على الشق الثاني: الموافقة النهائية على القرض المالي لكييف (90 مليار يورو) بضمان تلك الأصول.
25 ديسمبر 2025: الموعد المستهدف لـ “صفقة الميلاد”
يضغط البيت الأبيض للتوصل إلى صيغة “هدنة” لوقف إطلاق النار أو اتفاق إطاري يتم الإعلان عنه تزامناً مع أعياد الميلاد.
—————————
يمكنكم متابعة الكاتب عبر صفحته على تطبيق Substack من خلال الرابط
التالي:
https://substack.com/@counterculture68
– لندن
2025-12-13