انهيار “خطة ميرتز” وانتصار بلجيكي
أوروبا تفشل في السطو على الأصول الروسية وتستدين لإنقاذ زيلينسكي
في ليلة دراماتيكية، أسقطت المقاومة البلجيكية “خطة ميرتز” للسطو على الأصول الروسية، وتحالف الراغبين يستدين لإنقاذ زيلينسكي على حساب دافعي الضرائب
سعيد محمد
أسدل الستار في ساعة مبكرة من صباح أمس الجمعة على واحدة من أكثر قمم الإتحاد الأوروبي دراماتيكية وتوتراً منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، بنتيجة تعكس حجم المعضلة التي تواجهها القارة العجوز: إذ ستموّل نظام كييف لعامين على حساب دافعي الضرائب، فيما سقطت محاولة للسطو على الأصول الروسية المجمدة قادتها ألمانيا بعد تهديد صريح من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومقاومة شرسة من رئيس الوزراء البلجيكي، بارت دي ويفر.
وبعد ماراثون تفاوضي استمر قرابة 16 ساعة في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، فشل القادة في التوصل إلى إجماع بشأن استخدام الأصول الروسية المجمدة كضمان تمويل لقرض ضخم بهدف إنقاذ نظام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من الإفلاس، واضطروا -تحت وطأة العناد البلجيكي وتهديدات روسية وتحفظ أمريكي- إلى تفعيل خطة بديلة قائمة على الاستدانة المشتركة بقيمة 90 مليار يورو، في خطوة كرست الانقسام الأوروبي مع امتناع ثلاث دول عن المشاركة.
وكان المستشار الألماني فريدريش ميرتز ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قد أتيا إلى القمة بطموح كبير لتمرير خطة غير مسبوقة تقضي باستخدام عائدات وأصول البنك المركزي الروسي المجمدة في أوروبا (المقدرة بنحو 210 مليارات يورو) كضمان لقرض ضخم لأوكرانيا. الخطة هدفت إلى معاقبة الجار الروسيّ، وتجنيب دافعي الضرائب الأوروبيين عبء تمويل حرب تقترب سراعاً من دخول عامها الخامس.
إلا أن هذه الطموحات اصطدمت بجدار صلب اسمه “بارت دي ويفر”. رئيس الوزراء البلجيكي، الذي تستضيف بلاده مقر مؤسسة “يوروكلير” المالية العملاقة حيث تحتجز غالبية الأصول الروسية، قاد جبهة رفض بصلابة فاجأت الكثيرين. واستند الموقف البلجيكي أساساً إلى حسابات برغماتية بحتة بعيداً عن الحماس الأيديولوجي، إذ خشيت بروكسيل من أن يؤدي المساس بالأصول السيادية الروسية إلى زعزعة الاستقرار المالي لبلجيكا ومنطقة اليورو بأسرها.
وطالب دي ويفر بضمانات مالية “غير محدودة” من الشركاء الأوروبيين لحمايتها من أي انتقام قانوني أو مالي روسي، وهو ما اعتبرته دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا بمثابة شيك مفتوح لا يمكن تقديمه لا سيما في ظل اهتزاز اقتصاديات البلدين. ومع وصول المفاوضات إلى طريق مسدود في ساعات الفجر الأولى، خرج دي ويفر ليقول للصحفيين بنبرة المنتصر: “لقد سادت العقلانية. السياسة ليست وظيفة عاطفية، والبعض أراد معاقبة بوتين بالسطو على ماله، لكن المخاطر كانت أكبر من أن تحتمل”.
التردد الأوروبي، والبلجيكي تحديداً، لا شك ارتبط بأمرين آخرين في خلفية المداولات. أولهما أن موسكو مارست لعبة أعصاب دقيقة سبقت القمة، ملوحة برد “قاسٍ للغاية” في حال المساس بأصولها السيادية. وتجاوزت التهديدات الروسية الخطاب الإعلامي إلى إجراءات عملية، حيث رفع البنك المركزي الروسي دعوى قضائية بقيمة 18 تريليون روبل (حوالي 229 مليار دولار) أمام محكمة في موسكو ضد “يوروكلير”، ومن المقرر عقد أولى جلساتها الشهر المقبل.
علاوة على ذلك، يمتلك الكرملين ورقة ضغط موجعة تتمثل في أصول الغرب في روسيا. فبحسب تقديرات معهد كييف للاقتصاد، لا تزال الشركات الغربية تحتفظ بأصول تزيد قيمتها عن 127 مليار دولار داخل روسيا. وقد استحدثت موسكو آلية قانونية عبر ما يسمى “حسابات النوع سي”، حيث تُحتجز أرباح وتوزيعات الشركات الأجنبية وتمنع من التحويل للخارج.
وتشير التقارير إلى أن بنوكاً أوروبية كبرى، مثل “رايفايزن” النمساوي و”يونيكريديت” الإيطالي، لديها مليارات اليوروهات العالقة هناك، وحققت أرباحاً طائلة لا تستطيع تحويلها. وتخشى هذه الدول، ومعها إيطاليا والنمسا اللتان دعمتا الموقف البلجيكي في الكواليس، من أن تؤدي مصادرة الأصول الروسية في أوروبا إلى تأميم فوري لأصول شركاتها في روسيا، في عملية انتقامية سريعة بموجب مرسوم وقعه الرئيس فلاديمير بوتين في سبتمبر الماضي يسهل إجراءات التأميم رداً على “الأعمال العدائية”.
أما الأمر الآخر، فهو التحفظ الأمريكي الصامت على كل ما من شأنه أن يفشل جهود مبعوثي الرئيس دونالد ترامب لترتيب تسوية تنهي الصراع في لأوكرانيا تبدأ بإعلان هدنة مع أعياد الميلاد.
أمام هذا المأزق، وحاجة أوكرانيا الماسة للسيولة النقدية بحلول مطلع عام 2026 في ظل توقف الدعم الأمريكي، اضطر القادة الأوروبيون إلى تفعيل خطة بديلة. وتتمثل هذه الخطة في قيام 24 دولة بالاقتراض من الأسواق المالية الدولية لجمع مبلغ 90 مليار يورو، على أن يتم ضمان هذا الدين من ميزانية الاتحاد الأوروبي.
لكن هذا الحل كشف عن شرخ جديد في جدار الوحدة الأوروبية. فبينما وافقت 24 دولة على المشاركة في آلية الضمان هذه، امتنعت كل من هنغاريا وسلوفاكيا والتشيك. هذه الترويكا من زعماء اليمين الأوروبي فيكتور أوربان وروبرت فيكو وأندريه بابيش، شكلت في القمة كتلة مصمتة رفضت التورط المالي المباشر في الحرب، ما حول الاتحاد من تكتل يعتمد نظام إجماع الـ 27 دولة إلى تحالف راغبين. ونقلت صحف لندن عن بابيش رئيس الوزراء التشيكي تأكيده: “لن ندعم ضمانات لأي شيء، ولن نساهم بأية أموال”.
بالنسبة لميرتز، وفون دير لاين، كانت نتيجة القمة “نصف انتصار ونصف هزيمة” وفق أحد المعلقين. فقد نجحا في تأمين التمويل لزيلينسكي لعامين مقبلين – ما وصفه المستشار الألماني بأنه “خبر جيد لأوكرانيا وسيئ لروسيا” -، لكنهما فشلا في فرض الرؤية الألمانية للسطو على الأصول الروسية.
وقد حاول ميرتز حفظ ماء وجهه الذي أريق، مؤكداً في المؤتمر الصحفي الختامي أن “الاتحاد الأوروبي يحتفظ بالحق في استخدام الأصول الروسية لسداد القرض مستقبلاً إذا رفضت روسيا دفع تعويضات الحرب”. وقال بلهجة يائسة: “الأصول الروسية ستبقى مجمدة حتى تدفع روسيا التعويضات. وإذا لم تدفع، سنستخدم الأصول للسداد، بما يتوافق تماماً مع القانون الدولي”.
إلا أن الخبراء استخفوا بهذا التصريح واعتبروه محاولة لترحيل المشكلة إلى المستقبل. فآلية استخدام الأصول للسداد لا تزال غامضة قانونياً، ومن المرجح أن تصطدم بنفس العقبات البلجيكية والقانونية التي أفشلت الخطة الأصلية اليوم، عندما يحين موعد السداد بعد سنوات.
كان زيلينسكي قد استبق القمة مطلقاً نداء استغاثة أخيرة، محذراً من أنه دون أموال، ستواجه أوكرانيا مشكلة كبرى وستضطر لخفض إنتاج المسيرات والصواريخ بشكل جذري. ورغم أن كييف كانت تفضل استخدام الأصول الروسية كرسالة معنوية وسياسية، إلا أن الرئيس الأوكراني أبدى ارتياحه لتأمين السيولة أياً كان مصدرها. وقال للصحفيين على هامش القمة: “المهم هو أن التمويل غدا مضموناً”، واصفاً القرار بأنه “أحد أكثر القرارات وضوحاً وعدالة أخلاقية”.
ويدرك النظام في كييف أن الدعم الأوروبي بات شريان الحياة الوحيد له، خاصة مع تحول السياسة الأمريكية في عهد إدارة ترامب، ولذلك قبل بالخطة الأوروبية البديلة كطوق نجاة أخير. خطة تتيح تمديد الصراع لمزيد من الوقت، ويمولها دافعو الضرائب الأوروبيون من جيوبهم ومستقبل أبناءهم.
—————————
يمكنكم متابعة الكاتب عبر صفحته على تطبيق Substack من خلال الرابط
التالي:
https://substack.com/@counterculture68
– لندن
2025-12-21