المواطنة: حين يسكنك الوطن أو تسكنه!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
المواطنة ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، ولا بطاقة تعريف تُبرز عند الضرورة، بل هي علاقة متبادلة عميقة بين المواطن وإدارة الوطن، في جميع مفاصلها السياسية والقانونية والاجتماعية والإنسانية. علاقة تقوم على الاعتراف المتبادل: المواطن يمنح الانتماء والولاء، والدولة تمنح الكرامة والحقوق والحماية.
أسوق هذا الكلام لا تنظيرًا، بل من تجربة شخصية موجعة.
أنا عراقيّ الأصل، أحب العراق رغم ما أثخنه في روحي من جراح. أحببته في السبعينيات حين كان الحب جريمة، والاختلاف تهمة، والانتماء خارج أيديولوجية السلطة سببًا كافيًا للإقصاء والعذاب. لم أُعذَّب لأنني خنت الوطن، بل لأنني اختلفت مع من اختطفه.
ظننت، كما ظن كثيرون، أن القهر سينتهي مع رحيل المختلف بالدبابة الأمريكية، وأن القادم سيعيد الاعتبار لمن سُحقوا باسم الوطن. غير أن الخيبة كانت أفدح؛ إذ وجدت نفسي مرفوضًا من جديد، لا لشيء إلا لأنني ما زلت مختلفًا، هذه المرة بالطائفية وبالأيديولوجيا. لم أُعد إلى وظيفتي، ولم أُمنح حقوقي، وكأن الزمن دار دورة كاملة ليعيد إنتاج الظلم بوجوه جديدة.
عندها عدتُ إلى وطني البديل: الدنمارك.
لا بوصفها أرضًا للإقامة فقط، بل بوصفها دولةً فهمت معنى المواطنة. هناك، لم يُسأل المرء عمّا يؤمن به، بل عمّا يحتاجه. سكنٌ كريم، تقاعدٌ محترم، رعايةٌ صحية شاملة، وخدمات اجتماعية وإنسانية تُقدَّم بلا منّة ولا إذلال.
وحين ألمَّ بي وجع الجسد بعد تغيير مفصل، لم تُتركني الدولة لضعفي. أُرسلتُ إلى مركز علاج في مدينة ماربيا الإسبانية لثلاثة أسابيع: علاج، إقامة، سفر بالطائرة… من دون أن أدفع دولارًا واحدًا. عندها فقط فهمت، لا نظريًا بل عمليًا، ماذا تعني دولة تخاف على مواطنيها، لأنهم جزء من كيانها لا عبءٌ عليها.
فكيف لا أحب هذا البلد وأحترمه وأخاف عليه؟
إنه يخاف عليّ.
وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة:
شتّان ما بين وطنٍ أسكنه، ووطنٍ يسكنني.
الأول قد يمنحك اسمًا وجوازًا وذكريات، لكنه قد يسلبك الكرامة.
أما الثاني، فقد لا يكون مسقط رأسك، لكنه يمنحك الإحساس بأنك إنسان كامل الحقوق، غير قابل للإقصاء أو المحو.
ليس الوطن ترابًا فقط، بل عقدًا أخلاقيًا.
وحين ينكسر هذا العقد، يصبح الحنين وجعًا، ويغدو الحب صراعًا داخليًا بين الذاكرة والواقع. ومع ذلك، سيبقى العراق في القلب، لا كما أرادته السلطات، بل كما حلمنا به: وطنًا يسكن أبناءه، لا يطردهم
2025-12-14