القضاء في تونس ، إلى أين ؟
بقلم أحمد الحباسى*
بإصدار الحكم على عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر بسجنها مدة 12 سنة فى ما يعرف بقضية ” مكتب الضبط ” يكون القضاء التونسي قد أدّى جزءا مهما من الدور الموكول إليه تنفيذه بكل قسوة و دون احترام أي من معايير المحاكمة العادلة . لا أحد في الداخل و الخارج كان ينتظر تبرئة هذه السيدة و لا اللطف في الحكم و لا احترام معايير المحاكمة العادلة و لا تراجع القضاء فيما بدأه من تسليط أحكام مغالية في القسوة و التعسف ضد كل من سوّلت له نفسه إبداء رأى مخالف للسلطة أو لما يسمى ب” مسار 25 جويلية ” . الجميع في تونس كان بانتظار حكم جائر و مفرط في القسوة و خال من الركائز الموضوعية و القانونية و الجميع كانوا ينتظرون بكثير من الإحباط و الأسف نهاية الجزء الأول من مسلسل محاكمات الرأي و بقدر ما لاحظ المتابعين من نشر بعض التصريحات أو التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي نبرة واضحة من الغضب و النفور فقد كان هناك شبه ” ارتياح ” عام يفسره البعض بأنه حالة من القناعة بأن مسار الظلم و اللا عدالة و تجاوز القانون و هضم حقوق المواطن في التعبير ستكون من نتائجها تعميق شعور عام بأن البلاد تسير نحو الهاوية .
رغم جميع الدعوات و المناشدات الصادرة عن أغلبية الفاعلين السياسيين في البلاد و عن عدة هيئات دولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان فقد أختار القضاء و بالذات القضاة الجالسون على مختلف رتبهم و مواقعهم الانصياع إلى عامل الخوف على مصيرهم و نفذوا حرفيا المقولة الشائعة ” تبكى أمهم ( يعنى السجناء ) و لا تبكى أمّى ” و حتى من ملك شيئا من الشجاعة الأدبية مثل السيد أنيس الحمادى رئيس جمعية القضاء الذي خرج ليعبر بصريح العبارة أن الحكم الصادر ضد عبير موسى قد كان حكما قاسيا لا مبرر له من حيث الواقع و القانون فلم تمر بضع ساعات حتى طالته عصا المساءلة للسيدة وزيرة العدل التي قررت فتح بحث حول هذه التصريحات بما معناه أنه ليس للقاضي إبداء الرأي أو التعبير عن ما يلاحظه من انحراف القضاء عن دوره في إقامة العدل ليتحول إلى ذراع سليطة للسلطة ضد معارضيها . في الحقيقة و الواقع تحول جهاز النيابة العمومية الذي طالته شبهات الانصياع للتعليمات الصادرة عن السلطة العليا في البلاد إلى مؤسسة شريكة في توفير الغطاء القضائي لنزوات لا علاقة لها بالقضاء أو بحقيقة ما ألصق بالمتهمين من تهم جزافية غير مسبوقة و لعل الملاحظين قد اكتشفوا بالعين المجردة أن النيابة لم تعد تقوم بواجبها القانوني في التصدي لقضايا الفساد تنفيذا لشعار رئيس الدولة إلا عرضيا مع أن سوس الفساد قد تسرب إلى كل جسم المرافق العامة و الخاصة ليصبح الفساد مؤسسة و غولا يهدد التونسيين في قوتهم و في مصير أبناءهم .
من الواضح أن هناك قضاة قد تم ترهيبهم فعليا و لعل ما نقل عن رئيس الدولة من أن من يطلق سراح موقوف فهو شريك له قد مسّ جانب الخوف الذي يلازم الإنسان على مصير حياته و مصير عائلته لو تمّ إيقافه عن العمل ناهيك أن جهاز الدولة قد رفض قطعيا السماح لعدد كبير من القضاة المعزولين بقرار أحادى من السلطة و الذين برأهم و أمر قضاء المحكمة الإدارية بإرجاعهم إلى وظائفهم . لقد ظهر بمناسبة إصدار الأحكام الأخيرة في خصوص المتهمين بتجاوز حرية التعبير جيل جديد من القضاة لا يدرك معنى استقلال القضاء و لذلك ظهرت إلى السطح ظواهر لم يألفها تاريخ القضاء التونسي في سائر العهود و منها تجاوز متعمد لضوابط المحاكمة العادلة و الإبقاء على سجينة سياسية مثل عبير موسى في السجن بدون موجب و رفض البت في طلباته الشكلية و لهذا السبب فإن رئيس جمعية القضاة السيد أنس الحمادى لم يجد حرجا و لعله لم يدرك أنه سيكون موضع مساءلة بعد ساعات في أن يجاهر علنا و بمنتهى الدقة و الوضوح بكون الأحكام القضائية الصادرة مجحفة و غير سليمة المبنى و النية كل ذلك دون أن تنبس وزيرة العدل أو رئاسة الجمهورية المشرفة المباشرة على مؤسسة القضاء ببنت شفة سواء لردّ التهم الصريحة بهذا الحجم مما يؤكد وجه الحرج و ارتباك المواقف و لذلك فلا عجب أن يتلو الحكم الصادر ضد عبير موسى تعالى كثير من الأصوات و التصريحات مثل الإعلاميين زياد الهانئ و هيثم المكي التي تردد أن هناك قضاء مهمته الوحيدة هي سجن المعارضة الشريفة و تلويث سمعتها و تدجين صوتها خدمة للسلطة التي تتحكم في مورد رزق القضاة لتمنع أية نية لديهم في استقلال القرار القضائي و العمل على توزيع العدل طبقا للوائح القانون و ليس لرغبة أولى الأمر.
ليس جديدا حين نشير إلى تضاعف منسوب الفساد بيد أنه إذا كان ثمة ما يمكن لنا أن نضيفه فهو أن القضاء الذي يعانى من قلة الموارد البشرية و المادية من الأساس لم يعد قادرا نظرا لتكاثر قضايا محكمة أصحاب الرأي و المعارضة للنظام القائم على مواجهة حالة التمدد الأفقي و العمودي لمنظومة الفساد و الفاسدين و لذلك فالتساؤل باتا محتوما لماذا هناك إصرار رسمي على إطلاق شعار محاربة الفساد دون ممارسة ذلك على أرض الواقع و هل أن القضاء على حرية التعبير و سجن المعارضين بتسليط عقوبات زجرية ظالمة يدخل في باب محاربة الفساد ؟. لقد تحولت النيابة العامة إلى جهاز شرطة موازى في لباس مدني و رهنت نفسها نتيجة ضعف رغبتها في التمسك باستقلالية القضاء و خوف أفرادها من العزل و العقوبة التأديبية المقنعة لتخدم نزوات السلطة بدل القيام بمهمتها كحافظ أساسي لتطبيق القانون و رعاية مصالح الشعب. إن النيابة العمومية ، بهذا الشكل ، لا يمكن أن تقوم بواجبها القانوني في التصدي لقضايا الفساد بما فيه الفساد الحكومي الذي يشير إليه عديد نواب مجلس الشعب في تدخلاتهم العلنية بالاسم و الدليل كما لا يمكن لنفس هذه النيابة أن تخضع لنزوات معينة فتتولى الزجّ بالمعارضين في السجن بذرائع مسقطة و غير مقبولة و لذلك نتساءل : القضاء إلى أين ؟.
كاتب و ناشط سياسي .
2025-12-21