الغول والمرآة..
المضروبُ بلعنة الظمأ يملك أسئلةَ الموت.. ماذا تفعل النجوم؟*
———–
كريم عبد السلام**
———–
غُولْ
عينان تُطلقان الشرر وأنيابٌ بارزهٌ ورائحةُ قمامة
غُولْ، أقسمُ ليس كابوساً
رأسُ ذئبٍ وقرناُ ثورٍ وبدنُ فأر عملاق وذراعا كُنغرٍ ومخالبُ دبٍّ قطبى
يقفُ على قدمين ويعرف الكلام
ماذا يكون إذن إن لم يكن غولاً
لا أدرى من أين أتى..
خرجَ من الحكايات القديمة، أم جاء عبر ثغرة فى الزمن
لكنه أمامى، وأنا عائد من المدينة المزدحمة إلى بيت أهلى، الجسرِ الترابى ومدخلِ قريتى وحقولِ القمح والبرسيم وماكينات الرى، وفى رأسى يتردد سؤال واحد: من أنا
…..
أنا لم أَسْتَدعِه هو أو غيره من الوحوش، ولم أكن أفكر فى الغيلان حتى تحضرَ
كنت أتمتم “والصبحِ إذا تنفس” مع غبشة الفجر، وأشعر بالتراب المبلل على الجسر فى مدخل قريتى، وسؤال “من أنا” يتخبط فى رأسى، تحت هذه السماء فى هذه النقطة من العالم
الغولُ يتمدد بعرض الجسر، وعيناه الحمراوان تلمعان وأنيابُه ظاهرة، وزمجرته مسموعة
من يريد أن يقترح اسما آخر لهذا الوحش فليتفضل، لكنى الآن، أعرف الشعور الذى يجتاح الفأر عندما يحدق فيه ثعبان على بعد أمتار
ساقاى من الخشب وذراعاى من الرمل، ودمى متجمدٌ والعرق يتصبب من رأسى إلى وجهى وعنقى
أريد أن أتراجع ولا أستطيع، أريد أن أعدو، أريد أن أقفز يميناً أو يساراً ، هرب يهرب هروبا فهو غائب عن عينى الغول، لكن جسدى يعصانى، والعينان الحمروان مصوبتان باتجاهى والعضلات متحفزة والأذنان تتحركان كأنما تسمعان أنفاسى، والذيل إلى اليمن وإلى اليسار
أنت تهذى، قل لعينيكَ: أنتما تكذبان
تقدم ودُس على الوهم، مجردُ وهمٍ ويزول
مع نصف خطوة، قام واقفاً يتلمظ وضرب الأرض بحافريه
“ظمآن .. ظمآن
لماذا أنا من دون العالم محكومٌ علىَّ بالظمأ إلى الأبد
كل الأنهار لا تروينى.. كل الآبار لا تُطفئ العطشَ الملازمَ لروحى
معك ماءٌ أم أشربُ دمَك؟
ظمآن .. ظمآن”
قذفت نحوه زجاجتى فتلقفها وسكبها فى فمه
وأنا أفكر فى طريقة للهروب، وفى بلدتى التى لا يظهر منها أحد، وفى بيت أهلى
وفى الأنهار والآبار التى جفت ولم ترو ظمأه، لكنّى ظللتُ متخشباً فى مكانى، والغولُ يتقدم ببطء، واستند إلى سقالة من عروق الخشب فى وسطها سلم صاعد بارتفاع عشرة طوابق
“الأغبياء نصحونى ببناءِ سُلّمٍ لاصطياد السحاب
الكذابون، قالوا إن الغيوم تخزن المياه فى جوفها
وأنَّ فكَّ لعنتى فى ابتلاع الغيوم
كل يوم أصعد حتى الغيوم لكنى لا أمسك بها
دخانٌ .. هواء لا يروى عطشى
خدعونى وشربت دماءهم”، وأشار إلى العظام والجماجم حول السقالة
عندئذ أيقنت أنى ميتٌ ميّت
لا أخاف الموت لكنى أخاف الألم
هذه المخالب كفيلةٌ بصبِّ آلام العالم على رأسى
قد ينتزع ذراعى أو ساقى أو ينهشنى حياً
رأيتُ الضباع تلتهم فريستَها حيةً، قضمةً قضمة
أيها الغولُ المبجّلُ
أنتَ أقوى وحشٍ فى العالم
أقوى من الأسود والنمور والدببة مجتمعين
وأشرسُ من جماعات الكلاب البرّية
التماسيحُ العملاقةُ لا تُقارَن بقدرتكَ على البطش
أنت الوحشُ الوحيدُ القادرُ على الكلام
الوحيدُ الملعونُ بالظمأ الأبدى
أيها الغولُ المبجَّل
أنت لا ينافسك إلا الشيطان
لكنّى أثق أنكَ إذا واجهته، ستقضىى عليه فى لمح البصر
اسمح لى فقط
اسمح لى أن أستأذنَ فى موتٍ سريع
ضربةٌ واحدةٌ من كفّك القوية على رأسى
كفيلةٌ بقتلى
أيها الغولُ المبجَّل
أنا فضّلتكَ على نفسى رغم عطشى
وأعطيتك ما معى من ماء
كل ما أطلبه ليس النجاةَ لا سمح الله
ليس السماحَ بأن أمر إلى بيت أهلى
أنا أقدّر مصابكم الأليم وعطشكم الدائم ولعنتكم الثقيلة
أريد موتاً سريعاً
لا أريدُ ألماً
لا أريد تعذيباً
………
لأنك أعطيتنى ما معك من ماء سأسألك ثلاثة أسئلة
إذا أجبتَها تمرُّ بروحكَ وجسدك،
وإذا عجزتَ، شربتُ دمكَ وأكلتُ لحمكَ
لا خيارَ أمامكَ
تجيبُ أو تصمت
تعبر أو تموت
…
-ماذا تفعل النجوم؟
=تلفظ أنفاسها الأخيرة أمامنا، لكننا سنموت قبل أن تنتهى
وصوب الغول عينيه نحوى ضارباً الأرض بحافريه
….
-ما معنى الكون؟
=الكون هو الكون، معناه فى وجوده
ورفع الغول رأسه، وزعق ناحية السماء فطار سربُ حمام كان على الأرض
…..
-هل هناك من هو أجملُ منّى فى العالم؟
=نعم
فأخرج الغول ناراً من جوفه
-إذا لم تدلنى عليه أقضمْ رقبتَكَ
وفتح فكيه فظهرت أنيابُه خناجرَ
=كائن المرآة أجملُ منكَ ،
هو الأجملُ على الأرض
ورفعتُ المرآةَ بيدى الإثنتين حتى تكون فى مستوى وجهه
وأيقنت بهلاكى ورحت أتمتم بالشهادتين، والغول يتقدم ويدمدم ، إلى أن خطف المرآة من يدى ووضعها أمام عينيه الحمراوين ووجهه العفريتى وقرنيه البارزين وأنيابه التى تخترق شفتيه لأعلى ولأسفل
وكأنّى بالغول قد انتفخَ حتى صار منطاداً ثم صرخ صرخةً عظيمةً وتبعها بزفرةٍ ناريةٍ وقعتْ على حقل قمحٍ فأحرقته
ثم انفجر إلى مزقٍ صغيرةٍ، بعد أن ارتفع فى الهواء وارتطم بالأرض من الغيظ عندما رأى صورته،
وانحلت لعنته المؤبدة بالموت.
وعندما وصلت بيت أهلى
سألونى : هل سمعت عن الغول الذى ظهر ناحيتنا؟
—————————————————————–
· من ديوان “بالادات” .. أيها القارئ السعيد .. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب
· شاعر من مصر
2025-06-28