السلطة الفلسطينية بين مأزق البنية ووهم الإصلاح!
بقلم: خالد صالح عطية
هناك لحظات يصبح فيها استمرار الصمت أخطر من استمرار الخطأ. ويأتي مقال الدكتورة غانية ملحيس، المنشور في 08-12-2025 على صفحتها وعلى موقع الأنطولوجيا عبر الرابط الآتي:
https://alantologia.com/blogs/89805/
ليفتح بابًا مهمًا لنقاش لا يمكن تأجيله حول البنية التي تعمل السلطة الفلسطينية من داخلها، وحول المسار السياسي الذي لم يعد قادرًا على إنتاج أي معنى أو أفق. ومع أن المقال يقدّم قراءة نقدية جريئة للقطار المعطوب الذي تحاول السلطة تحريكه على سكة لم تختَرها، فإنه يبقى عند مستوى التشخيص دون الانتقال إلى طرح السؤال الأكثر حساسية: لماذا يستمر القطار أصلًا؟ ولماذا يُصرّ الجميع على بقائه فوق السكة ذاتها، رغم أنها لم تؤدِّ يومًا إلى الوجهة المعلنة؟
فالواضح اليوم أن السلطة لم تُنشأ في ظروف مستحيلة فحسب، بل في بنية تجعل استحالة العمل جزءًا من وظيفتها. ليست المشكلة في ضعف الأداء أو فساد الإدارة أو غياب الكفاءة؛ المشكلة أن السلطة لم تُبنَ لتكون دولة، ولا لتكون حركة تحرر، بل لتكون إطارًا إداريًا ضيقًا يعمل تحت سقف محدد سلفًا، وضمن اشتراطات لا يستطيع تجاوزها. هذا لا يعفيها من المسؤولية، ولكنه يفرض قراءة مختلفة لطبيعة فشلها: فشل ليس ناتجًا عن عجز حكومة، بل عن طبيعة كيان لم يمتلك يومًا الأدوات أو الشرعية أو المساحة السياسية التي تخوّله ليمثل شعبًا يواجه استعمارًا استيطانيًا يعمل على نفي وجوده ذاته.
وفي حين يصف مقال الدكتورة القيود الصارمة التي تكبّل عمل السلطة—من تغوّل الاستيطان، إلى تقطيع الجغرافيا، إلى السيطرة على الموارد، إلى الإخضاع الأمني والاقتصادي—فإنه لا يفسّر لماذا تستمر هذه البنية رغم أنها أصبحت عبئًا على المجتمع، ولماذا لم يحدث الانهيار الذي يبدو منطقيًا من منظور سياسي. ما يحدث في الواقع أن السلطة جزء من شبكة علاقات معقدة: الاحتلال يحتاجها لإدارة السكان، المانحون يحتاجونها لاستقرار هندسة سياسية محددة، النخب تستفيد من بقائها، والمجتمع يفتقر إلى بديل مؤسساتي ينظم حياته اليومية. هذه الخارطة توضح أن استمرار السلطة لا يرتبط بنجاعة أدائها، بل بوظيفتها في نظام أكبر منها.
وعندما تدعو الدكتورة إلى إعادة تعريف السلطة بحيث تصبح جزءًا من حركة التحرر لا بديلاً عنها، فهي تطرح سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا مهمًا، لكنه يصطدم بعقبات موضوعية: السلطة لا تملك القدرة على إعادة تعريف وظيفتها، لأنها لا تمتلك حرية الحركة اللازمة لذلك، ولا شرعية التمثيل، ولا أدوات الفعل السياسي. أي تحوّل جذري في دورها يتطلب تغييرًا في البيئة التي أنتجتها، لا مجرد رغبة داخلية.
في هذه اللحظة بالذات يظهر الصوت المتوقع ممن تدافع المقالات النقدية على حسابهم: “ما البديل؟” هذا السؤال يُستخدم عادة كحجة لإغلاق النقاش وإعادة إنتاج الأمر الواقع، وكأن غياب البديل يفرض القبول بنموذج لم يعد صالحًا. لكن الإجابة ليست معقدة كما يتخيّل البعض، وهي قطعًا ليست دعوة لترك فراغ سياسي أو إداري.
ولعلّ من الأمانة الفكرية الإشارة إلى أن الدكتورة غانية ملحيس كانت من أوائل من طرح بوضوح فكرة إعادة تعريف وظيفة السلطة الفلسطينية باعتبارها جهازًا مدنيًا محدودًا، لا إطارًا قياديًا سياسيًا. وقد كان لهذا الطرح، الذي تناولناه معًا في حوارات سابقة وتبلور لاحقًا في مقالها المنشور في 08/12/2025، دورٌ تحفيزي في دفع هذا المقال إلى مساءلة البنية نفسها، وتفكيك حدود الوظيفة التي تكبّل السلطة وتجعل أي إصلاح مجرّد إعادة إنتاج لشكل الأزمة لا مضمونها.
وهنا يبرز خيار يبدو للكثيرين “واقعيًا” أو “عمليًا”: خيار إصلاح السلطة. وهو خيار عاد بقوة بعد حرب الإبادة في غزة، لكن ليس بوصفه مسارًا وطنيًا، بل بوصفه مطلبًا دوليًا لضمان استمرار الوظيفة نفسها التي أنشئت السلطة من أجلها. فالإصلاح المطروح لا يعني توسيع هامش قرار السلطة أو تمكينها من ممارسة سيادة لا تمتلكها، ولا يعني ربطها من جديد بمشروع التحرر، بل يعني إعادة ترميم نموذج الحكم المحلي الذي يدير حياة الفلسطينيين تحت سقف الهيمنة الإسرائيلية. إن المجتمع الدولي لا ينادي بإصلاح السلطة لأنه اكتشف فجأة فسادها أو عجزها، بل لأنه يريد سلطة أكثر قدرة على ضبط المجتمع وأقل قابلية للتصادم مع هندسة السيطرة القائمة. أما الاحتلال، فليس معنيًا بسلطة قوية، بل بسلطة مطواعة تُدير السكان وتخفف عنه كلفة السيطرة، دون أن تملك القدرة على تعطيل استراتيجيته الاستيطانية أو مواجهتها.
وهكذا يصبح الإصلاح الذي يُطرح بوصفه حلاً، جزءًا من المشكلة نفسها: سلطة لا تسيطر على حدودها، ولا على أمنها، ولا على مواردها، ولا تستطيع حماية موظفيها من الاعتقال، ولا تمتلك قرار الحركة أو السياسة، لا يمكن إصلاحها إلا ضمن المساحة التي يُسمح لها بالوجود فيها. وكلما ازداد الحديث عن “محاربة الفساد” أو “تدريب الأجهزة” أو “تطوير الإدارة”، ازداد وضوح أن هذه العمليات تهدف إلى تحسين أداء وظيفة مُعرّفة مسبقًا، لا إلى تغييرها. فالمؤسسة التي وُلدت لتكون جهازًا إداريًا محدود الوظيفة لا يمكن تحويلها عبر الإصلاح إلى فاعل سياسي يمتلك القدرة على تمثيل شعب خاضع لاستعمار إحلالي. وفي كل مرة يجري فيها الحديث عن دمج غزة ضمن “سلطة مُصلَحة”، يتضح أن المطلوب ليس توحيد الجغرافيا الفلسطينية ولا إعادة بناء التمثيل السياسي، بل إنتاج نسخة أكثر قابلية للإدارة من النموذج نفسه.
الإصلاح هنا لا يتجاوز الفشل، بل يعيد تدويره. إنه محاولة لتجميل سقف منخفض بدل محاولة رفعه، وإعادة طلاء جدران ضيقة بدل هدمها. وكل “تحسين” في الأداء الإداري يتحول إلى وسيلة لإطالة عمر البنية نفسها، لا للخروج منها. ولذلك يصبح خيار الإصلاح، مهما اختلفت الصياغات التقنية، تكريسًا لوهم أن السلطة يمكن أن تتحول إلى دولة أو إلى قيادة وطنية عبر تحديث أجهزة وميزانيات، بينما الأساس السياسي الذي تقوم عليه يمنع ذلك من جذوره.
فالبديل ليس سلطة جديدة داخل الإطار نفسه، ولا حكومة أكثر كفاءة، ولا انتخابات تجرى تحت الاحتلال وكأنها قادرة على منح شرعية مفقودة. البديل يبدأ حين نتوقف عن افتراض أن السلطة بشكلها الحالي هي الشكل الوحيد الممكن لتنظيم المجتمع الفلسطيني. فهناك ثلاثة مسارات عملية—لا شعاراتية—يمكن أن تتطور تدريجيًا: أولها إعادة بناء التمثيل الوطني خارج احتكار السلطة، أي فتح المجال لبناء إطار وطني جامع يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير بوصفها مرجعًا تمثيليًا لا ملحقًا ببنية السلطة. وثانيها إعادة تعريف السلطة نفسها كجهاز خدماتي-مدني محدود الوظيفة، لا كسلطة سياسية تتحدث باسم الشعب أو تدّعي قيادة مشروع التحرر. وثالثها الانتقال من إدارة الواقع إلى إدارة المقاومة، أي وضع استراتيجية وطنية تتعامل مع طبيعة الاستعمار الإحلالي عبر المقاومة الشعبية المنظمة، والتدويل الجاد، والاعتماد على قوة المجتمع بدل تركّز القوة في مؤسسة واحدة.
بهذه الرؤية يصبح سؤال “ما البديل؟” سؤالًا فارغًا من محتواه، لأنه مبنيّ على فرضية خاطئة: أن السلطة بشكلها الحالي قدر لا يمكن تجاوزه. والحقيقة أن البديل ليس شكلًا واحدًا، بل مسارٌ يعيد توزيع القوة والقرار والتمثيل، ويحرر السياسة من قيد الاحتكار، ويعيدها إلى المجتمع حيث تنشأ شرعيتها.
ربما علينا في النهاية أن نعيد صياغة السؤال الذي تختم به الدكتورة مقالها. ليس “إلى أين يسير القطار؟” بل: لماذا نسير أصلًا في قطار لم نصنعه، ولم نحدد وجهته، ولا نعرف من يتحكم بسكّته؟ وحين يُطرح السؤال بهذا الشكل، يصبح السير في الطريق نفسه مجرد إعادة إنتاج لدوران لا ينتهي، مهما اختلف السائقون، ومهما تبدلت الحكومات.
٠٩-١٢-٢٠٢٥