الحركات التحررية العربية من المقاومة إلى السياسة..!
فاطمة زويل*
منذ منتصف القرن العشرين، شهد العالم العربي ولادة عشرات الحركات التحررية التي نشأت كردّة فعل على الإحتلالات الأجنبية، من الإستعمار الغربي إلى الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين والدول المجاورة، وبعضها نشأ للوقوف في وجه الهيمنة الغربية على السياسة والموارد الطبيعية.
رفعت هذه الحركات شعار التحرير والكرامة الوطنية والوحدة العربية، وخاضت صراعات مسلحة دامت عقودًا لكن بعد تحولات سياسية واجتماعية كبرى، اختلفت مصائرها: بعضها انخرط في العملية السياسي وتخلّى عن السلاح كمنظمة التحرير الفلسطينية والتي تعدّ أبرز نموذج عربي تحوّل من العمل الفدائي المقاوم إلى المسار السياسي وبطبيعة الحال تماهت بعد هذا التحوّل مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي المسيطرعلى المنطقة.
وبعضها استلم الحكم إلا انه لم يصمد طويلًا كحزب البعث العربي في العراق وسوريا والحركة القومية في ليبيا، مهما كان موقفك من هؤلاء الحكام إلا أنّ انهيارحكمهم كان على أيدي الجيش الأمريكي وقوات التحالف (إن كان بشكل عسكري مباشرأو غير مباشر) وليس بقرار شعبي ذاتي.
يمكن القول أن مسار الحركات التحررية العربية مرّ بتحولات عميقة عكست صراعًا دائمًا بين الثوابت والمصالح، بين السلاح والسياسة، وبين حلم التحرير والاصطفافات الدولية الإقليمية. فبعد عقود من المواجهة المسلحة ضد الاستعمار والاحتلال وجدت هذه الحركات نفسها أمام عالم لا يكافئ من يملك الحق بقدر ما يكافئ من يملك النفوذ، وأمام شعوب فقيرة ومنهكة، الأمر الذي أعاد تموضع العديد منها ضمن المشهد السياسي وحوّلها تدريجيًا إلى طرف سياسي مقيّد باتفاقات وأطر دولية أفقدتها أسباب شرعية قيامها، فالقوى الإستعمارية القديمة لم تختف بل عادت بأشكال جديدة (سياسية واقتصادية) كما حدث مع كل تجربة تحررية عربية واجهت ضغوطًا دولية هائلة من حصار اقتصادي، دعم انقلابات او احتواء سياسي كما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد أوسلو.
أسهل شيء عند الفشل هو إلقاء اللوم على أي عنصر خارجي كشماعة التدخلات والضغوطات الخارجية في العالم العربي عند مطالبة أي مجموعة بتحرير أرض أو باتخاذ قرار سياسي ذاتي، إلا أن التآكل الداخلي للتركيبة الثقافية وللأنظمة العربية نفسها سهّلت الأمر للقوى الغربية من انتهاك قراراتنا السياسية وابتزازنا بمواردنا الطبيعية، إذًا المشكلة في أنظمتنا ورؤوس الاهرام في أنظمتنا ومناهجنا قبل أن تكون في الهيمنة الغربية.
يقول محمد جابر الأنصاري في كتابه “العرب والسياسة: أين الخلل؟”: “تبدو الأمة العربية جسمًا عملاقًا برأس سياسي في منتهى الصغر”
وهذه الآفة ليست وليدة السياسات والأطماع الحديثة في العالم إنما منذ التأزم المبكر للخلافة الراشدة وصولًا لظهور الصهيونية العالمية، خلل في التبعية العمياء للحاكم وتبعية الحكام للخارج، خلل في القيم والمبادئ المتلوّنة حسب مصالح الخارج، خلل في أنظمة الحكم المرتكزة على الشحن الطائفي وأخيرًا خلل في الوعي السياسي العربي.
بعد حرب 2023 على لبنان وغزة والقرار الأمريكي الإسرائيلي بإنهاء آخر معاقل الحركات التحررية في المنطقة، أثبتت هذه الحرب رغم حجم الحصار، العقوبات، التشويه الاعلامي، الدمار الهائل والإغتيالات أن حزب الله لا يزال قادرعلى التماسك. لكنه في الوقت نفسه بدأ مرحلة دقيقة من التداخل بين الدور السياسي والعسكري، خصوصًا أنه في الواجهة كآخر امتداد حي للمشروع التحرري العربي وهنا يكمن التحدّي الأصعب، فكيف يمكن الحفاظ على مبدأ المقاومة المسلحة في زمن تصاغ فيه السياسات الإقليمية والدولية على طاولة المساومات وكيف يمكن له الاستمرار في الدفاع عن قضية التحرير دون أن يستدرج إلى لعبة النفوذ والمصالح الإقليمية؟ وأي اتجاه سيتخذه؟
هل سيكون مصيره كمصير الحركات القومية العربية والناصريين؟ أم كمصير جبهة البوليساريو في الصحراء الكبرى؟
التحدّي الكبير الذي ستواجهه المقاومة حاليًّا هو التوفيق بين السلاح والسياسة في عالم تغيّرت فيه قواعد الشرعية، القوة والإنتماءات. عبر التاريخ من تونس إلى فلسطين، ومن الجزائر إلى اليمن ولبنان يظهر أن الحركات التحررية العربية نجحت في كسر الإستعمار والإنقلابات العسكرية الواعدة بالتحرّر، ثم وجدت نفسها أمام دول فقيرة، مدمرة ومواردها وقرارها مرهونان للغرب.
لكن بخلاف كل الحركات التحررية العربية السابقة حزب الله عمل على خطوط حمراء عريضة لم يحيد عنها و بقيت بعض الأمور كان دائم الانفتاح حولها وبالتالي تخلّى عن الراديكالية التي اتسمت بها كل الأحزاب الأخرى والتي أدت إلى انهيار بعضها، فكان منفتحًا على أي دولة أو جهة تقدّم العون للمقاومة على مبدأ خدمة الجناح العسكري وحتى تسخير الجناح السياسي لنفس الغرض بعكس بعض الحركات التحررية التي سخّرت السلاح لأجل أهدافها السياسية المتغيرة بفعل التغيرات الإقليمية والدولية.
وبذلك استطاع أن يشكّل قاعدة شعبية قائمة على التبعية الفكرية له وليس لأفراده، وأبقى على القيم التي بٌنيَ عليها وأعاد تثبيتها، وابتعد عن الشحن الطائفي بل تحالف سياسيًا مع طوائف أخرى وبذلك شكّل وعي سياسي عربي سليم لفئة كبيرة من المجتمع اللبناني أولاً والعربي ثانيًا.
حزب الله هو النموذج الأصلح من كل الحركات التحررية العربية وربما الإصلاحات التي قام بها كانت نتيجة دراسته واستفادته من أخطاء أسلافه ونجاحه بمواكبة المتغيرات الإقليمية على الصعيد الإجتماعي، السياسي وحتى من الناحية الدينية وبالتالي لن يتخذ المسار السياسي البحتي كما منظمة التحرير ولا سيقدم على تهوّر عسكري يفقده ما بناه على مدى السنين، لذلك على الأرجح سيكون الحال كما كما كان عليه قبل 2023 وسيقوم بفرض معادلات ردع وتوازن ربما تكون جديدة أو مختلفة عن ما قبل 2023 إلا أنّ هناك ثابت واحد قائم عليه وهو مساره الذي لن يحيد رغم كلّ ما تعرّض ويتعرّض له وسيبقى لاعبًا عسكريًّا وسياسيًّا في آن معًا ما يجعله أبعد من أن يكون حزبًا سياسيًّا تقليديًّا وأقرب إلى تنظيم متكامل يفرض حضوره بقوّة الأمر الواقع والشرعية التي استمدها من تاريخه وشعبه ودوره الأقليمي، هكذا تنظيم منبثق من قاعدة شعبية واسعة لا فكر سياسي متغير من المستحيل أن يضمحل إلا بالقضاء على هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع وهو شبه مستحيل.
يبقى التمنّي بأن تستفيد الشعوب والأحزاب العربية من تجربته التي تصلح كتجربة دول بحالها في سبيل استنهاض هذه الأمة التي تتعوذ من الساسة والسياسة بدل أن تعمل على تجسيد نموذج للصمود والمقاومة في وجه المشاريع المعادية.
كاتبة لبنانية
2025-12-21
تعليقان
👏🏻👏🏻
ان ما تطرقت اليه الكاتبة يمثل حقيقة واقع حزب الله ، فهو ليس تنظيماً دينيا دعوياً ولا تنظيماً عسكريا صرفاً، هو حالة جديدة من الحركات التحررية العالمية، شكرا فاطمة