الاعتراف الدولي والتمثيل الفلسطيني: من المكسب السياسي إلى حدود الفعل والتحييد الوظيفي!
بقلم: خالد صالح عطية
يأتي هذا المقال استكمالًا لنقاشٍ فكري فلسطيني متصاعد حول أزمة النموذج السياسي القائم، وما بلغته منظومة الحكم الذاتي من انسداد تاريخي، وهو نقاش شارك فيه كتّاب وباحثون من زوايا متعددة، وسعى إلى الانتقال من تشخيص الأزمة إلى مساءلة شروط تجاوزها. في هذا السياق، جاء المقال السابق «من نزع السياسة الوظيفة إلى بناء الحامل: أسئلة الانتقال الفلسطيني» ليقارب إشكالية الانتقال السياسي وسؤال الحامل التمثيلي، دون ادعاء امتلاك إجابات نهائية، بل بوصفه جزءًا من اشتباك فكري مفتوح.
غير أن هذا الاشتباك يظل ناقصًا إن لم يُدرج في صلبه أحد أكثر العناصر حساسية في التجربة الفلسطينية المعاصرة: مسألة الاعتراف الدولي، لا بوصفه إنجازًا قانونيًا وسياسيًا تحقق بتضحيات جسيمة، بل بوصفه أيضًا مسارًا تاريخيًا أعاد تشكيل وظيفة التمثيل السياسي، وحدود الفعل، والعلاقة بين الشرعية والتحرر داخل النظام الدولي.
فالكثير مما يُفترض اليوم بوصفه مكسبًا سياسيًا ثابتًا، جرى التعامل معه خارج سياقه التاريخي المتغيّر، وبات في ممارسته الراهنة جزءًا من بنية ضبط تعيد تعريف الممكن السياسي ضمن سقوف مُسبقة، وتحدّ من القدرة على تحويل الاعتراف إلى أداة فاعلة في مسار التحرر.
تنطلق أطروحة هذا المقال من أن الاعتراف الدولي، في صيغته ووظيفته السائدتين اليوم، لم يعد يؤدي الدور التحرري الذي طُمح إليه تاريخيًا، بل تحوّل في كثير من تجلياته إلى قيد بنيوي يُعيد إنتاج التمثيل الوظيفي، ويقيّد إمكان إعادة التأسيس الوطني.
من هنا، لا يأتي هذا المقال بوصفه نقضًا للاعتراف أو إنكارًا لقيمته، ولا إضافة شكلية لما كُتب سابقًا، بل بوصفه محاولة لتعميق التفكيك عند النقطة التي يلتقي فيها الداخل بالخارج، والتمثيل بالوظيفة، والشرعية بالتحييد.
ذلك أن أي حديث عن إعادة تأسيس المشروع الوطني، أو عن بناء حامل سياسي تحرري، سيظل مبتورًا ما لم يُواجه السؤال الأصعب: كيف جرى فصل الاعتراف عن مشروع التحرر، وكيف تحوّلت وظيفته من رافعة نضالية محتملة إلى إطار إداري ضابط، وكيف يمكن إعادة التفكير فيه بوصفه ساحة صراع لا معطى مكتملًا؟
ليس الاعتراف الدولي في الحالة الفلسطينية مسألة قانونية مجردة، ولا رصيدًا سياسيًا يمكن التعامل معه بوصفه مكسبًا تراكميًا خارج شروطه التاريخية. فمنذ لحظة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، ثم لاحقًا الاعتراف بالسلطة الفلسطينية، وأخيرًا التوسع في الاعتراف بدولة فلسطين، جرى التعامل مع الاعتراف بوصفه ذروة النضال السياسي، أكثر مما جرى التعامل معه بوصفه موقعًا للصراع على الوظيفة والمعنى.
لكن ما تراكم عبر العقود لم يكن اعترافًا فعليًا بحق تقرير المصير بقدر ما كان إعادة تعريف متدرّجة لوظيفة التمثيل الفلسطيني داخل النظام الدولي: من حركة تحرر وطني إلى كيان وسيط لإدارة الصراع.
ولا يجادل هذا المقال في أهمية الحضور الدولي الفلسطيني، ولا يدعو إلى القطيعة مع العالم، ولا إلى إلغاء ما راكمه الفلسطينيون من اعتراف قانوني وسياسي تحقق بدماء الشهداء ومعاناة الأسرى وصمود المجتمع. كما لا يستهدف أشخاصًا أو مواقع بعينها، بل يسعى إلى تفكيك وظيفة بنيوية تحوّل فيها الاعتراف، في ممارسته الراهنة، من أداة نضال إلى قيد سياسي.
الإشكال، هنا، ليس في الاعتراف بحد ذاته، بل في الطريقة التي جرى بها فصله عن مشروع التحرر، وربطه بإدارة الصراع بدل تغييره.
فالاعتراف بمنظمة التحرير لم يكن لحظة تحرر مطلقة، بل لحظة إدخالها في منظومة توازنات دولية وإقليمية، أصبح فيها تمثيل الشعب الفلسطيني مشروطًا بالقدرة على ضبطه، لا بقدرته على مواصلة الصراع. ومع توقيع اتفاقيات أوسلو، انتقل مركز الثقل من المنظمة إلى السلطة، لا لأنها أكثر شرعية، بل لأنها أكثر قابلية للتكيّف مع متطلبات “الاستقرار”.
هكذا جرى تضخيم البنية الإدارية على حساب البنية التحررية، وتحويل التمثيل من فعل سياسي صراعي إلى وظيفة تنظيمية تُقاس بمدى الالتزام بالتفاهمات، لا بمدى التعبير عن الإرادة الشعبية.
في هذا التحول، لم تُلغَ منظمة التحرير رسميًا، لكنها جرى تفريغها عمليًا من مضمونها التحرري. أصبحت مرجعية رمزية تُستدعى عند الحاجة، بينما تُدار السياسة الفعلية عبر سلطة محكومة بسقف اتفاقي واضح. هذا السقف لم يحدّد فقط ما يمكن فعله، بل أعاد تعريف ما يمكن التفكير فيه سياسيًا. كل ما يتجاوز إدارة الصراع صار يُصنّف مغامرة، وكل ما يخرج عن منطق “الالتزامات” يُنظر إليه كتهديد للاستقرار، لا كخطوة تحرر.
وقد عمّق التوسع في الاعتراف بدولة فلسطين هذه المفارقة بدل أن يحلّها. فالدولة المعترف بها دوليًا لا تمتلك سيادة، ولا حدودًا، ولا احتكارًا للقوة، ولا قدرة فعلية على تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات. ومع ذلك، جرى استخدام هذا الاعتراف لتكريس نموذج الحكم الذاتي، لا لتفكيكه.
الدولة، في هذا السياق، لا تعمل كأداة تحرر، بل كغطاء قانوني طويل الأمد لإدارة استعمار بلا كلفة سياسية عالية على النظام الدولي.
وبهذا المعنى، لم تُستخدم الدولة للضغط من أجل إنهاء الاستعمار، بل استُخدم استمرار الاستعمار لتبرير دولة منقوصة بلا أفق سيادي. فالاعتراف، بدل أن يكون أداة ضغط على إسرائيل، تحوّل إلى أداة ضغط على الفلسطينيين أنفسهم، لإبقائهم داخل سقف “الدولة الممكنة” لا الدولة المطلوبة.
ولا يكتمل فهم هذه المفارقة عند حدود السياسة والمؤسسات وحدها، بل يتطلب التوقف عند البعد الخطابي والمعرفي الذي يعمل من خلاله الاعتراف الدولي نفسه. فالاعتراف، كما يُمارس داخل النظام الدولي، لا يُنتج فقط شرعية قانونية، بل يُعيد تشكيل صورة المُمثَّل وحدود فعله.
في هذا الإطار، لا يُعترف بالفلسطيني بوصفه فاعلًا تحرريًا مفتوح الأفق، بل بوصفه ذاتًا يجب ضبطها وإدارة مطالبها ضمن لغة “الاستقرار” و“الواقعية”. هكذا يصبح التمثيل المعترف به مشروطًا بإعادة صياغة الخطاب السياسي الفلسطيني بما ينسجم مع التوقعات السائدة: فلسطيني مقبول، غير مقلق، يُدين العنف أكثر مما يُدين الاستعمار، ويطالب بدولة ممكنة أكثر مما يطالب بعدالة كاملة.
في هذا المعنى، لا يعمل الاعتراف كمرآة للحق، بل كأداة لإعادة تعريفه، بحيث يتحول التحرر ذاته إلى مطلب “غير واقعي”، ويُعاد إنتاج التمثيل الوظيفي لا بالقوة فقط، بل باللغة.
وفي هذا السياق، تشكّلت شبكة مصالح واسعة حول التمثيل المعترف به: سفارات، بعثات، أجهزة، وظائف، امتيازات، وعلاقات دولية بات استمرارها مشروطًا ببقاء النموذج القائم. هذه الشبكة لا يمكن اختزالها في الفساد أو الانتهازية، بل هي نتاج بنية كاملة تجعل من التمثيل وظيفة وسيطة بين المجتمع والاحتلال، وبين المجتمع والنظام الدولي.
ويظهر ذلك بوضوح في كيفية ربط التمويل، والحركة، والوصول إلى المنابر الدولية، واستمرارية البعثات والتمثيل الخارجي، بسقف سياسي وخطابي محدد، يصبح تجاوزه تهديدًا “للمكتسبات”، لا حقًا مشروعًا في الاختلاف السياسي.
المفارقة أن هذه الشرعية، التي يُفترض أن تكون مصدر قوة، باتت في ممارستها الراهنة أحد أهم قيود التحول. فهي تمنح الاعتراف، لكنها تسحب القدرة على الفعل؛ تعطي المكانة، لكنها تفرغها من المحتوى؛ تجعل القيادة “ممثلة”، لكنها تفصلها عن المجتمع.
وهنا يظهر أحد أعمق التحديات أمام أي مسار لإعادة التأسيس: كيف يمكن بناء حامل سياسي تحرري في ظل بنية اعتراف دولي تُكافئ الإدارة وتُعاقب التحرر؟
إن نزع السياسة عن السلطة لا يكتمل دون مساءلة جذرية لوظيفة الاعتراف ذاته، لا من حيث قيمته القانونية أو رمزيته التاريخية، بل من حيث موقعه الحالي داخل منظومة ضبط تُعيد إنتاج النموذج القائم. فالإشكال ليس في وجود سفارات أو تمثيل خارجي، بل في تحوّل هذا التمثيل إلى غاية بحد ذاته، وإلى اقتصاد سياسي يحرس إدارة الصراع.
إعادة تسييس المشروع الوطني تقتضي كسر هذا التماهي بين الاعتراف والاستقرار، وإعادة تعريف الشرعية لا بوصفها رضا النظام الدولي، بل بوصفها تعبيرًا عن الإرادة الجماعية وقدرتها على الصمود والفعل.
وهذا لا يعني الدعوة إلى القطيعة مع العالم، ولا إلى تدمير ما راكمه الفلسطينيون من حضور دولي، بل إلى تحرير هذا الحضور من وظيفته الضابطة، وإعادة التفكير في الاعتراف بوصفه أداة يمكن استعادتها لصالح مشروع تحرري، لا إطارًا يحاصره.
من هنا، يصبح واضحًا أن بناء الحامل السياسي لا يمكن أن يتم دون مواجهة هذا القيد البنيوي. فحامل بلا قدرة على إعادة تعريف علاقته بالاعتراف الدولي، سيجد نفسه عاجزًا منذ لحظته الأولى، أو مضطرًا لإعادة إنتاج الدور الوسيط نفسه بأسماء جديدة.
هذا النقاش، بكل ثقله، لا يستهدف إلغاء ما هو قائم، ولا يدّعي امتلاك خارطة طريق جاهزة، لكنه يصرّ على أن أي حديث عن انتقال سياسي أو إعادة تأسيس وطني سيبقى ناقصًا، إن لم يُدرج مسألة الاعتراف والتمثيل الوظيفي في صلب التحليل، لا في هامشه.
فالتحرر لا يُقاس بعدد من يعترفون بنا، بل بقدرتنا على جعل الاعتراف رافعة للعدالة والفعل السياسي، لا تفويضًا دائمًا بإدارة الهزيمة.
20-12-2025