الاستيطان والمعرفة: فلسطين وإعادة إنتاج السيادة!
خالد عطيه
يأتي هذا المقال استكمالًا لمقالي السابق «بنية السيطرة في فلسطين: الاستيطان حتى عام 2025 بين القانون والعنف والحياة والمقاومة»، الذي تناول التحوّل البنيوي في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي من كونه توسّعًا عمرانيًا إلى كونه بنية هيكلية لإعادة إنتاج السيطرة والسيادة، من خلال تحليل تفاعل أدوات القانون والعنف والإدارة في منظومة واحدة تُحوّل الاحتلال المؤقت إلى شكلٍ دائم من الهيمنة. وقد أظهر المقال السابق كيف تسلّلت هذه السيطرة إلى تفاصيل الحياة الفلسطينية اليومية – من تخطيط المدن إلى الزراعة والتعليم – حتى أصبحت الجغرافيا ذاتها خطابًا للسلطة.
غير أنّ هذا المستوى البنيوي لا يكتمل دون إدراك البنية المعرفية والثقافية التي تُنتج هذه السيطرة وتُشرعنها. فالمعركة في فلسطين لم تعد معركة على الأرض فحسب، بل على المعنى ذاته؛ إذ لم يعد الاستيطان الإسرائيلي فعلًا عمرانياً أو توسّعًا ديموغرافيًا، بل منظومة معرفية–ثقافية متكاملة تعيد تعريف الأرض والهوية والذاكرة. ومنذ العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أخذ المشروع الاستيطاني يتجاوز أدواته المادية ليُنتج «نظام حقيقة» يحوّل السيطرة إلى معرفة، والهيمنة إلى سردية شرعية.
بهذا المعنى، يمكن النظر إلى الاستيطان في فلسطين بوصفه مشروعًا معرفيًا يعمل على إعادة صياغة العالم الفلسطيني لا عبر الجرافات فقط، بل عبر النصوص، والمناهج، والخرائط، والخطاب القانوني والإعلامي. إنه نظام لإنتاج «الحقيقة الاستعمارية» التي تُعيد بناء الواقع وتحوّل الاحتلال إلى طبيعة، والاستيطان إلى قدر.
تُشكّل ثلاث مدارس فكرية مركزية الإطار النظري لهذا الفهم: أولها، تحليل ميشيل فوكو للعلاقة بين السلطة والمعرفة، والذي يوضح أن السيطرة لا تُمارَس فقط بالعنف، بل عبر تحديد ما يُعتبر «حقيقة» داخل المجتمع¹. ثانيها، نقد إدوارد سعيد للاستشراق الذي كشف كيف تتحوّل المعرفة إلى أداة استعمارية لإنتاج الآخر كموضوع للحكم والسيطرة². وثالثها، مفهوم باتريك وولف عن «المنطق الإحلالي» في الاستعمار الاستيطاني، الذي يسعى لا إلى استغلال الأصلاني بل إلى محوه³. هذه الرؤى الثلاث تتيح قراءة المشروع الاستيطاني في فلسطين بوصفه شبكةً معرفية–رمزية تُعيد إنتاج السيطرة عبر القانون والتعليم واللغة والمؤسسة.
منذ الشعار التأسيسي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، بدأ المشروع الصهيوني كممارسة معرفية قبل أن يكون فعلًا عسكريًا⁴. فالإفراغ الرمزي سبق الإفراغ المادي: جرى نفي وجود الفلسطيني في الخطاب لتبرير إحلال المستعمِر في المكان. وبعد النكبة عام 1948، أُعيدت تسمية أكثر من 400 قرية فلسطينية بأسماء توراتية، لتتحول الخرائط إلى نصوص سياسية تمحو الذاكرة الجمعية⁵. بهذا المعنى، شكّلت إعادة التسمية شكلًا من «إبادة الذاكرة» التي توازي إبادة المكان.
في المجال التعليمي، تُنتج المناهج الإسرائيلية سردية مغلقة تتمحور حول «العودة إلى أرض الميعاد» وتُغيب الفلسطيني عن المشهد التاريخي⁶. التعليم هنا ليس عمليةً معرفية بريئة، بل أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وتثبيت الرواية الاستعمارية بوصفها «تاريخًا». وفي المجال القانوني، يعمل القانون الإسرائيلي على إنتاج شرعية جديدة، إذ تُصنّف الأراضي المصادَرة كـ«أراضي دولة»، وتُمنح المستوطنات صفة «التوسّع الطبيعي»، ويُقدَّم المستوطن كـ«المواطن الحامي»⁷. هذه اللغة القانونية لا تنظّم الواقع فحسب، بل تُنتج واقعًا جديدًا يعيد تعريف السيادة ويحوّل الفلسطيني إلى مقيم مؤقت في وطنه.
أما اللغة والرموز، فتلعب دورًا جوهريًا في تكريس السيطرة؛ إذ تُعاد تسمية الأماكن والطرق لتصبح اللغة ذاتها أداة استعمارية تُشرعن الوجود الاستيطاني وتُعيد ترميز الفضاء⁸. فكل اسم يُمحى هو حذفٌ من الوعي، وكل ترجمة جديدة هي ترسيخ للسيادة. اللغة، في هذا السياق، تتحول من وسيلة تواصل إلى وسيلة احتلال.
يتجاوز المشروع الاستيطاني السيطرة المادية إلى ما يسميه أشيل مبمبي «السياسة الحيوية» (سياسات الحياة والموت)⁹، أي السيطرة عبر إدارة الحياة نفسها: مَن يعيش، ومَن يُمنع من الحياة، ومَن يُتاح له أن يتحرك أو يتعلم أو يعمل. تمنح الدولة الاستيطانية امتيازات اقتصادية وتعليمية للمستوطنين بوصفهم «حماة الهوية اليهودية»، في حين تُحرم المجتمعات الفلسطينية من الموارد والحقوق الأساسية. بهذه الطريقة، تتحول السيادة إلى إدارة للمعنى والحياة، ويُعاد تعريف الإنسان وفق موقعه من مشروع الاستعمار.
في مواجهة هذا النظام، برزت المقاومة الفلسطينية كفعل معرفي مضاد يسعى إلى استعادة السردية وإعادة تثبيت الوجود. ويبرز عمل سلمان أبو ستة مثالًا رائدًا في هذا الإطار، إذ حوّل الخرائط إلى أدوات مقاومة، وقدم أطلس فلسطين 1917–1966 بوصفه مشروعًا لإعادة بناء الجغرافيا الفلسطينية على أساس الوثيقة والذاكرة والشهادة¹⁰. كما ساهمت مؤسسات مثل مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومركز الحق، ومركز بديل، وذاكرة فلسطين، و«رؤية فلسطين» (Visualizing Palestine) في تشكيل أرشيفٍ علمي وبصري مضادّ لخطاب الإلغاء¹¹. هذه الجهود تشكّل ما يمكن تسميته بـ«السيادة المعرفية الفلسطينية»، أي بناء الوجود من خلال إنتاج المعرفة.
لكنّ المقاومة المعرفية، كما تشير الدكتورة غانية ملحيس، لا تكتمل دون تفكيك تمثلات الهيمنة داخل الوعي الفلسطيني نفسه. فالاستيطان لا يفرض فقط سيطرته على الأرض، بل يسعى إلى أن يُرى العالم بعينه. حين يتبنى الفلسطيني مفاهيم مثل «النزاع» بدل «الاحتلال»، أو يتعامل مع تقسيمات «المناطق أ، ب، ج» كحقائق إدارية طبيعية، فإنه يُعيد إنتاج الخطاب الاستعماري في لغته. هنا، تصبح اللغة ميدانًا للمقاومة، ويغدو الوعي ذاته ساحة معركة.
من هذا المنظور، لا تقتصر مهمة المقاومة على إنتاج سردية بديلة، بل تشمل تفكيك البنية الرمزية التي جعلت الفلسطيني متلقيًا للمعرفة لا منتجًا لها. المعرفة الفلسطينية ليست ترفًا توثيقيًا، بل فعل تحرّر أنطولوجي يهدف إلى إعادة تعريف الذات خارج منطق المستعمِر. فكل وثيقة تُستعاد، وكل قرية تُوثّق، وكل اسم يُعاد إلى مكانه، هو فعل سيادة رمزية مضادة.
إنّ السيطرة المعرفية أخطر من السيطرة المادية لأنها تُحوّل الاحتلال إلى «طبيعة»، والاستيطان إلى «حقيقة». لذا، فإنّ النضال ضد الاستيطان لا يكتمل إلا حين يُبطَل منطقه الرمزي ويُفكَّك خطابه من الداخل. فالمعركة على فلسطين هي، في جوهرها، معركة على من يمتلك الحق في رواية الحقيقة. إنّ استعادة الخطاب الفلسطيني – علميًا وثقافيًا ورمزيًا – ليست ترفًا فكريًا، بل فعل وجودي يعيد تعريف الصراع بوصفه معركة على الوعي كما هو على الأرض. وعند هذه النقطة تحديدًا، يصبح التحرّر مشروعًا معرفيًا شاملًا: تحرّرًا من الاستعمار، ومن منطق الاستعمار في التفكير ذاته.
وفي أفق المستقبل، تمثل المعرفة المستقلة شرطًا للسيادة الفلسطينية الآتية. فإعادة بناء نظام معرفي حرّ، قادر على قراءة العالم من منظور فلسطيني، هو الخطوة الأولى نحو إعادة تعريف العدالة والسيادة. هكذا تتحول المعرفة إلى أداة وجود ومقاومة، ويصبح الوعي ذاته فضاءً للتحرر.
الهوامش والمراجع
1. ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة جورج أبي صالح، بيروت: دار النهار، 1994.
2. إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.
3. باتريك وولف، الاستعمار الاستيطاني وتحول الأنثروبولوجيا، لندن: كاسل، 1999.
4. تو
م سيغف، 1949: أول الإسرائيليين، نيويورك: فري برس، 1986.
5. بن موريس، ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947–1949، كامبريدج: جامعة كامبريدج، 1987.
6. بوجي كيمرلينغ وجوزيف ميجدال، الشعب الفلسطيني: تاريخ، كامبريدج: جامعة هارفارد، 2003.
7. بتسليم، «مصادرة الأراضي والمستوطنات»، القدس: منظمة بتسليم، 2020.
8. رشيد الخالدي، كلّ ما تبقّى: القرى الفلسطينية المحتلة والمهجرة عام 1948، واشنطن: معهد الدراسات الفلسطينية، 1992.
9. أشيل مبمبي، السياسة الحيوية (Necropolitics)، ترجمة فلان فلان، دورهام: دار جامعة ديوك، 2019.
10. سلمان أبو ستة، أطلس فلسطين 1917–1966، لندن: جمعية أراضي فلسطين، 2003.
11. تقارير ومنشورات: تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة (25 سبتمبر 2025)، الصادر: «تقرير الأمين العام: المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية» (A/80/399).
https://documents.un.org/doc/undoc/gen/n25/250/81/pdf/n2525081.pdf
2025-11-17