اختطاف العراق….!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي**
تمهيد: حين تُطفأ الفوانيس وتولد الظلال
لم يكن سقوط بغداد في ربيع 2003 مجرّد تغيير حكم، بل كان طفأة كبرى انطفأت فيها فوانيس الدولة، وتمدّدت فوق جسد الوطن ظلالٌ كثيفة، صنعتها ثلاثية نهمة:
الولايات المتحدة – إسرائيل – إيران.
ثلاثية اجتمعت مصالحها على هدف واحد: أسْر العراق لا تحريره، وتعطيل روحه لا بنائه. وهكذا بدأت مرحلة يمكن وصفها – دون مبالغة – بـ الاختطاف الناعم للدولة والمجتمع معًا.
⸻
الفصل الأول: الدبابة التي لم تهدم النظام فقط… بل هدمت الدولة
دخلت الدبابة الأمريكية بغداد وهي تحمل حطام نظامٍ دكتاتوري، لكنها تركت خلفها ما هو أخطر: دولة بلا عظام.
ففي غضون أسابيع:
• حُلَّ الجيش العراقي (قرار الحاكم المدني بول بريمر رقم 2).
• أُلغيت أجهزة الأمن والمخابرات دفعة واحدة.
• نُهب المتحف الوطني أمام أنظار المحتل، في دلالة رمزية على سقوط الذاكرة.
• صعدت إلى السلطة قوى سياسية كانت حتى الأمس تمارس السياسة من الفنادق أو من أحضان أجهزة دول إقليمية.
هكذا تكسّرت ركائز الدولة الحديثة التي صاغها رجال من طراز ساطع الحصري، وساسون حسقيل، وعبد الرحمن البزاز، وصارت البلاد مفتوحة لكل ريح.
⸻
الفصل الثاني: تصفية العقول… كسرُ عمود النور
عرفت الدول المحتلة أن سحق الثروة البشرية هو المفتاح لإغلاق أبواب النهوض، ولذلك استهدفت موجات الاغتيال منذ 2004:
• أساتذة الجامعات (784 حالة موثّقة بين 2003–2010).
• أطباء الجراحة والأعصاب.
• خبراء النفط والجيولوجيا.
• ضباط الجيش السابق من ذوي الاختصاصات الدقيقة.
كانت البلاد تفقد كل يوم واحدة من قِطَع ذاكرتها العلمية.
وما بين 2005–2013 غادر العراق أكثر من 180 ألف كفاءة بحسب تقارير الأمم المتحدة، فبدا الوطن كما لو أن روحه العلمية تُنتزع فقرةً فقرةً.
⸻
الفصل الثالث: تكريس الظلام… حين تُستبدَل المواطنة بالخرافة
لم يتوقف الاختطاف عند تفكيك الدولة، بل اتجه نحو إعادة هندسة الوعي الجمعي عبر:
1. تضخيم الطقوس الدينية على حساب التعليم والعمل.
2. خلق مواسم متتابعة تشغل الجمهور وتُنهكه وتُلهيه.
3. إدخال المجتمع في ظلمات السحر والشعوذة والغيبيات، وإبعاده عن القيم المدنية الحديثة.
صار العراقي الذي كان يُعرَف بثقافته وحُبّه للكتاب، يتنقّل بين مواكب لا تنتهي، ومجالس تُغذّي الولاءات الصغيرة بدل الولاء للوطن.
وبذلك نشأت بيئة مثالية لولادة أشباه الدولة: دولة طقوس وهويات فرعية، تتقدّم على دولة القانون والمؤسسات.
⸻
الفصل الرابع: صُنّاع الفوضى… من المعسكرات إلى الشوارع
لم تكن الفوضى التي عمت العراق صدفة.
فقد جرت خلال التسعينيات وبداية الألفية تدريبات منظمة في:
• معسكرات الحرس الثوري في إيران (سجّلتها تقارير لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس 2007).
• معسكرات في سوريا قرب دير الزور وحلب تُدرّب عناصر على حرب المدن، بعضها مرتبط بتنظيمات مذهبية، وبعضها بتنظيمات متطرفة سنّية.
وبمجرد سقوط بغداد، تسللت هذه المجموعات إلى البلاد لتدشّن مرحلة تفجير المساجد والأسواق والكنائس، وإثارة الرعب، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
أرادوا للعراق أن يغرق في دمه كي لا يرفع رأسه.
⸻
الفصل الخامس: المليشيات والدولة العميقة… وجه آخر للاختطاف
في ظل الفراغ الأمني، نشأت المليشيات، لا لحماية الناس، بل لحماية مشاريع خارجية تتوزع بين النفوذ الإيراني والأمريكي، وتخترق حتى أصغر تفاصيل الدولة.
كانت النتيجة:
• منافذ حدودية خارج سيطرة الحكومة.
• اقتصاد موازٍ يديره السلاح.
• أجهزة دولة تُدار بمنطق المكاتب الخاصة، لا المنظومة المؤسسية.
• اختراق للقضاء وللقوات الأمنية.
وبذلك اكتملت الحلقة:
دولة مخطوفة، وشعب مُنهك، وسلطات تتقاسم النفوذ كما يتقاسم الغزاة الغنائم.
⸻
الفصل السادس: شواهد من التاريخ… حين تتشابه الخرائط
ليس ما حدث في العراق فريدًا تمامًا، فقد سبقه:
• احتلال الجزائر (1830) الذي دمّر البنية التعليمية التقليدية، ومهّد لتفريغ المجتمع من نخبه.
• سقوط ليبيا 2011 وتحول البلاد إلى دولة ميليشيات.
• لبنان بعد الحرب الأهلية حيث تمددت الطائفية على حساب الدولة المركزية.
لكن العراق كان أكثر هذه التجارب مأساوية، لأنه يمتلك ثقلًا بشريًا وحضاريًا واقتصاديًا جعل كل الأطراف تتنافس على تفكيكه.
⸻
خاتمة: هل يمكن للعراق أن يستعيد وجهه؟
رغم كل هذا الألم، يبقى السؤال:
هل انتهت الحكاية؟
الجواب: لا.
فالشعوب التي أنجبت سومر وبابل والحضارة العباسية، قادرة على استعادة ذاتها.
لكن ذلك يتطلّب:
• مشروع دولة وطنية فوق الطوائف.
• تفكيك المليشيات وإعادة بناء الجيش على أسس مهنية.
• إعادة الاعتبار للعلم والتعليم.
• تحرير القرار السياسي من الهيمنة الخارجية.
حين ينهض العراقي من بين الركام، سيكتشف أن ما خُطف منه ليس وطنًا فقط، بل مستقبلٌ كامل يستحق أن يُستعاد.
⸻
مراجع وشواهد مختصرة
1. تقارير الأمم المتحدة حول الكفاءات العراقية (UNHCR، 2010–2013).
2. تقرير لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي عن النفوذ الإيراني (2007).
3. بيانات وزارة التعليم العالي العراقية عن اغتيالات الأكاديميين (2004–2010).
4. كتاب علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث.
5. دراسات مركز كارنيغي والشرق الأوسط حول الدولة العميقة بعد 2003.
6. قرارات سلطة الائتلاف المؤقتة – بول بريمر (2003)
2025-12-12