إصلاح التعليم في العراق: من الحفظ والتلقين إلى التعليم المنتج للمعرفة!
بقلم: البروفيسور الدكتور وليد الحيالي
مقدمة:
يواجه النظام التعليمي في العراق تحديات بنيوية عميقة تراكمت عبر عقود من الاضطرابات السياسية، والحروب، والعقوبات الاقتصادية، وما رافقها من تدهور في البنية التحتية والمؤسسات التربوية. وقد أسهم هذا السياق المضطرب في تكريس نموذج تعليمي تقليدي يقوم على الحفظ والتلقين، بوصفه الأسلوب الأسهل والأقل كلفة في إدارة التعليم، لكنه في الوقت ذاته الأكثر ضررًا على المدى البعيد. وفي ظل التحولات العالمية المتسارعة، بات إصلاح التعليم في العراق ضرورة وطنية، لا تنفصل عن مشروع إعادة بناء الدولة والتنمية الشاملة.
أولًا: ملامح التعليم القائم على الحفظ والتلقين في العراق
ما يزال التعليم العراقي، في مراحله المختلفة، يعتمد بدرجة كبيرة على الامتحان بوصفه الغاية النهائية للعملية التعليمية. وقد أفرز هذا الواقع عدة ظواهر، منها:
1. تحويل الطالب إلى وعاء للمعلومة، يُقاس تفوقه بقدرته على الاستظهار لا على الفهم أو التحليل.
2. تهميش دور المعلم التربوي لصالح دوره كناقل للمنهج المقرر.
3. ضعف الارتباط بين التعليم وسوق العمل، ما أدى إلى تفاقم بطالة الخريجين، لا سيما في التخصصات الإنسانية.
وتُظهر التجربة العراقية أن هذا النمط من التعليم أسهم في إنتاج أجيال تمتلك شهادات رسمية، لكنها تفتقر في كثير من الأحيان إلى المهارات التحليلية والتطبيقية المطلوبة لإدارة الاقتصاد والمجتمع في مرحلة ما بعد الصراع.
ثانيًا: التعليم المنتج للمعرفة كمدخل لإصلاح التعليم في العراق
إن التحول نحو تعليم يجعل الطالب منتجًا ومستهلكًا للمعرفة في آنٍ واحد يمثل ركيزة أساسية لأي مشروع إصلاحي جاد. ويقوم هذا النموذج على:
1. إعادة تصميم المناهج بما يعزز التفكير النقدي وحل المشكلات المرتبطة بالواقع العراقي.
2. اعتماد التعلم القائم على البحث والمشاريع، خصوصًا في الجامعات، وربطه بالقضايا الوطنية مثل التنمية، والحوكمة، وإدارة الموارد.
3. تحويل الصف الدراسي إلى فضاء حواري يُشجع على السؤال والمناقشة، بدل الخوف من الخطأ.
وفي السياق العراقي، يمكن لهذا التحول أن يسهم في إعادة بناء الثقة بين الطالب والمؤسسة التعليمية، ويعيد للتعليم وظيفته الاجتماعية والتنموية.
ثالثًا: الجامعات العراقية بين الاستهلاك والإنتاج المعرفي
تعاني الجامعات العراقية من اختلال واضح بين الكم والنوع؛ إذ شهدت توسعًا كبيرًا في أعداد الجامعات والكليات، دون أن يقابله تطور مماثل في البحث العلمي. ويعود ذلك إلى:
• ضعف التمويل المخصص للبحث.
• غياب الربط المؤسسي بين الجامعة واحتياجات المجتمع.
• استمرار ثقافة التلقين حتى في التعليم العالي.
إن إصلاح التعليم الجامعي يقتضي إعادة تعريف وظيفة الجامعة بوصفها منتِجًا للمعرفة الوطنية، من خلال تشجيع البحوث التطبيقية المرتبطة بمشكلات العراق الفعلية، مثل الفقر، والبطالة، وإدارة المياه، والتنمية البشرية.
رابعًا: التعليم المنتج للمعرفة وبناء الدولة العراقية
لا يمكن فصل إصلاح التعليم عن مشروع بناء الدولة في العراق. فالتعليم القائم على التلقين يُعيد إنتاج التبعية الفكرية والانقسام، بينما يسهم التعليم النقدي المنتج للمعرفة في:
• تعزيز المواطنة الواعية بدل الولاءات الضيقة.
• بناء رأس مال بشري قادر على إدارة مؤسسات الدولة بكفاءة.
• دعم العدالة الاجتماعية عبر تكافؤ الفرص التعليمية.
وتجربة العراق بعد عام 2003 تُظهر أن غياب رؤية تعليمية إصلاحية واضحة أسهم في إضعاف مسارات التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية.
خامسًا: آفاق إصلاح التعليم في العراق
يتطلب إصلاح التعليم العراقي حزمة متكاملة من السياسات، من أبرزها:
1. إعادة تأهيل المعلم بوصفه فاعلًا معرفيًا لا مجرد منفذ للمنهج.
2. مراجعة نظام التقويم والامتحانات بحيث يقيس الفهم والمهارة لا الحفظ.
3. ربط التعليم بالتنمية البشرية عبر سياسات تعليمية طويلة الأمد.
4. تحفيز البحث العلمي وربطه بصنع القرار الاقتصادي والاجتماعي.
خاتمة
إن إصلاح التعليم في العراق ليس مسألة تقنية أو إدارية فحسب، بل هو خيار استراتيجي يتصل بمستقبل الدولة والمجتمع. فالانتقال من التعليم القائم على الحفظ والتلقين إلى التعليم المنتج للمعرفة يمثل شرطًا أساسيًا للخروج من دائرة التخلف والتبعية، وبناء عراق قادر على مواجهة تحديات العصر. ومن دون هذا التحول، ستبقى أزمة التعليم أحد أبرز معوقات التنمية وإعادة الإعمار
2025-12-21