مدن صديقة.. عشت في عدة أماكن من مدينتي دمشق، التي تعرفني كما اعرفها… آخر بيت سكنته (مع عدد من الأصدقاء) وسافرت منه كان في حي بستان الرز العشوائي، في ربوة دمشق وبداية الهامة، على بردى. وكنت قد أقمت في دمر البلد وباب توما التاريخي وقدسيا ومخيم اليرموك، ومناطق كثيرة أخرى. أحياناً كنت أسير وحيداً مشياً على الأقدام من بستان الرز في ربوة دمشق إلى مخيم اليرموك، كي أزور أصدقائي الكثر هناك (الراحل أبو زياد وغسان وأبو أفكار)، وهي مسافة طويلة جداً، تتطلب اختراق كل شوارع وحارات ومناطق دمشق، مما يتيح لي فرصة التعرف على ملامح وتفاصيل المدينة والتمعن فيها. قد استريح في بهاء الجامع الأموي وأقرأ بكتاب ما (ربما يتعارض مع الدين والمكان)، لكنها دمشق المتسامحة والمختلفة! كان ذلك بدافع الرياضة أو لتوفير ثمن وجبة رخيصة، رغم أنني تنتظرني وجبة تقليدية، فقيرة وشهية (بيض وطماطم وبصل) في بيت أبو أفكار أو بيت الراحل طارق وتوت أبو زياد، مع حديث لا ينتهي عن العراق. كانت هناك جولات قصيرة مع صديق أو صديقة أراعي فيها الطرف الثاني، تمتد من الربوة إلى ساحة الأمويين ومركز المدينة، لتنتهي في مقهى أو بار. كنت أطوف على المكتبات العامة والخاصة وأرصفة الكتب، واحضر كل الأمسيات الثقافية ومعارض الرسم والكتب ونشاطات المراكز الثقافية. في دمشق التي أحبها واعرفها، زرت كل الضواحي والحارات. كنت اركب في باصات النقل الشعبي القديم أو الحديث (المكرو والسرفيس)، وهي رخيصة بالطبع. أنتظر المقعد الأمامي كي أستطيع أن أرى الطريق أمامي ومشهد الريف المدهش. فزرت الزبداني وعين الخضرة وكل المناطق السياحية المهمة، ثم الغوطة ومدنها الصغيرة. كنت أصل المدينة في ريف دمشق وأتجول فيها ثم أعود بباصات النقل العام نفسها. وزرت الجولان أيضاً مع أصدقائي. كما سافرت لأغلب المدن السورية بنفس الطريقة، حيث أركب باص النقل العام الرخيص، مع كتاب. وبذلك زرت درعا والسويداء، ومررت بمدينة اسمها جاسم وانخل، أتابع أخبارهما الدامية الآن. وزرت اللاذقية ومدينة كسب الساحرة (من بقايا لواء الإسكندرون) وطرطوس وجزيرة أرواد، والمرور بسهل الغاب وجسر الشغور وبلدات جميلة ساحرة. كما زرت مدن دير الزور والحسكة والقاملشي والرقة، وذهبنا إلى آثار الرصافة العباسية فيها. لكن تبقى قصة حلب وسد الطبقة مختلفة، حيث كنت أذهب إلى السد الذي يقع على نهر وبحيرة الفرات دائماً وباستمرار، كي أزور صديقي المهندس حسن عودة وعائلته الجميلة، وفي طريقي أتوقف قليلاً في حمص لأتناول حلوياتها المحلية (حلاوة الجبن الحمصية)، ثم أواصل طريقي إلى حلب، لأزور صديقي الشاعر العراقي الراحل فائز العراقي (نصير)، وقد التقي بالشاعر الجميل مهدي محمد علي، صاحب بصرياثا جنة البستان، أو أعود لهم من الطبقة، كي نسهر حتى مشارف الصباح مع أصدقاء كثر. في طريقي إلى حلب تمر السيارة بمدينة أسمها الناصرية، تذكرني بناصريتي البعيدة، كما نمر بمعرة النعمان، وشخيها الجليل الفيلسوف والشاعر العقلاني العقلي أبي العلاء المعري، وهو ينشر أفكاره الواضحة على البشر. في سد الطبقة أشرب وأشم ماء الفرات، واغسل يدي ووجهي بذاك الماء الأول المقدس، وأتجول فوق السد، وفي المساء نكسر العرق بماء الفرات، بعد وجبة سمك بني شهية. أودع أصدقائي هناك وأترك الطبقة. أعود إلى حلب حيث ينتظرني فايز، وجولات ممتعة في المدينة وسهر طويل وغناء حلبي، ولمة كبيرة لعراقيين وسوريين وفلسطينيين وأكراد وغناء حلبي لا ينقطع. في الصباح أتجول في سوق المدينة التاريخي، واشتري صابون الغار الحلبي. في اليوم التالي أعود إلى المدينة التي تعرفني، حيث سحر وبساطة دمشق وعبق الزنبق البلدي وعطر الصبايا ولون الحجر. كل هذه المدن أراها الآن في نشرات الأخبار المسائية، لا كما كانت، وكما عرفتها…