تشارلز داروين .. شاهد الزور الذي سمّي عالما (22)!
د. عمر ظاهر.
وأخيرا .. داروين يقوم بنفسه بتجربة عن النحل
غريزة عمل الخلية في نحل الملاجئ
ينتقل داروين الآن إلى الحديث عن نحل الملاجئ، ونعرف مسبقا أن داروين لن يتناول غريزة صنع العسل، بل سيقتصر في حديثه على غريزة صنع الخلايا التي يُحفظ فيها العسل. ونعرف أيضا، على أساس ما يبينه، أنه كان معروفا لعلماء الرياضيات في زمنه:
أن النحل قد توصل بالفعل إلى حل لمشكلة عويصة، وأنه قد صنع خلاياه على الشكل الصحيح لتستوعب أكبر قدر من العسل مع أقل استخدام ممكن للشمع الثمين المستخدم في التشييد. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص: 419)
والروعة هنا تكمن، بالنسبة لداروين، في:
أن أي عامل ماهر مزود بأدوات التركيب والقياس، سوف يجد أنه من الصعب جدا عليه أن يصنع خلايا من الشمع على الشكل الصحيح، مع أن هذا ما يتم إنجازه بواسطة مجموعة من النحل تعمل في ملجأ مظلم. وتسليما بأي غرائز كانت، فإنه شيء – يبدو ولأول وهلة – غير قابل للتصديق كيف يستطيع النحل أن يقوم بعمل جميع المستويات والزوايا اللازمة، أو حتى يستوعب أن هذا العمل قد تم صنعه بهذا الشكل الصحيح، مع أن هذا ما يتم إنجازه بواسطة مجموعة من النحل تعمل في ملجأ مظلم. وتسليما بأي غرائز كانت، فإنه شيء – يبدو ولأول مهلة – غير قابل للتصديق كيف يستطيع النحل أن يقوم بعمل جميع المستويات والزوايا اللازمة، أو حتى كيف يستوعب أن هذا العمل قد تم صنعه بهذا الشكل الصحيح. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص: 419)
ويستطرد داروين قائلا:
ولكن الصعوبة ليست كبيرة إلى الحد الذي تظهر به لأول مرة: فأنا أعتقد أنه من الممكن توضيح أن هذه العمل الجميل هو من توابع القليل من الغرائز البسيطة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص: 419)
يقول السيد داروين أنه اكتشف شيئا مذهلا، وهو أن بناء هذه الخلايا يتم بفضل بعض الغرائز! أي إن الحديث يدور عن هذه الغرائز – في وضعها الجاهز، وعن أن القدرة على صنع الخلايا بهذا الشكل البديع ترجع إلى هذه الغرائز الجاهزة. داروين يدرك، دون أدنى شك، أن أي حديث عن قابلية، أو عادة ظهرت في هذه الظلمات، وتطورت إلى غريزة على هذا المستوى من الإبداع سيجر عليه السخرية. الأولى به، إذن، أن يقفز فوق مثل هذا الحديث.
لكن القارئ يحير، فعنوان الفصل هو: غريزة عمل الخلية في نحل الملاجئ (صيغة المفرد)، لكن الحديث يدور في التفاصيل عن غرائز (صيغة الجمع) – غرائز بسيطة – فوق هذا وذاك. ماذا تعني عبارة “بسيطة” هنا؟ هل تعني أن غرائز النحل في صنع الخلايا – حتى عند هذا المستوى الراقي، بسيطة، بمعنى أنها ليست مركبة؟ ألم تتطور هذه الغرائز مع تطور النحل عضويا؟ غريب حقا!
لكنْ صبرا، فداروين سيعود إلى ذلك حتما. إنه يقدم أولا وصفا مطولا لخلايا النحل، وأشكالها، وقياساتها، مستقيا معلوماته من السيد واتر هاوس Mr. Waterhouse، والسيد بيير هوبر، والأستاذ ميللر Professor Miller الذي أعطاه معلومات عن القياسات الرياضية، ومن الأستاذ وايمان Prof. Wyman. ثم ينظر في أشكال خلايا النحل، ويعود فجأة إلى الحديث عن مسألة التدرج في نشوء غرائز بناء الخلايا، منطلقا من سلسلة قصيرة من أنواع النحل في أحد طرفيها النحل الطنان الذي يستخدم شرانقه القديمة لحفظ العسل، وعند الطرف الآخر الخلايا الخاصة بنحل الملاجئ المصفوفة في طبقة مزدوجة، وفي الوسط خلايا النحل المكسيكي الداجن، الذي يقوم بصنع مشط شمعي منتظم من خلايا اسطوانية الشكل. هنا يستند داروين مرة أخرى على معلومات مقتطعة من أبحاث الآخرين، ويستنتج وجود تدرج في العمل الغريزي لدى النحل.
يرى داروين أن هناك تدرجا في غريزة بناء الخلايا عند نحل الملاجئ. لكن الحديث عن التدرج لا يعود بنا الآن إلى الوراء زمنيا حيث بدأ كل شيء بقابليات فردية أو عادات، بل إن مراحل تدرج هذه الغريزة موجودة في الوقت الحاضر. أين؟ عند الأنواع الأخرى من النحل. يختار داروين – من بين أكثر من عشرين ألف نوع من النحل منتشر على كل القارات، ما عدا القارة القطبية الجنوبية – ثلاثة أنواع فقط لتتبع هذا التدرج: النحل الطنان، والنحل المكسيكي الداجن، ونحل الملاجئ الذي يمثل قمة التطور. يرى داروين أن أسلوب النحل الطنان (حفظ العسل في شرانقه القديمة) نموذج بدائي، والتطور يتدرج نحو ما يفعله النحل المكسيكي الداجن (مشط شمعي منتظم من خلايا اسطوانية الشكل)، ويصل قمة الرقي في نموذج نحل الملاجئ. ونحن لسنا في هذه النقاشات معنيين بصحة معلومات داروين، بل بطريقة معالجته المواضيع.
القارئ يرى أن هذه النماذج موجودة في نفس الوقت، وليست تاريخية. هل كان نحل الملاجئ من قبل يحفظ عسله في شرانقه القديمة أيضا، مثل النحل الطنان؟ لماذا بقي النحل الطنان، إذن، على بدائيته، وسار نحل الملاجئ إلى الرقي؟ ثم إن التحدث عن أي تدرج في غرائز ما يقارب العشرين ألف نوع من كائن حي لا قيمة له، عندما يتناول المرء فقط ثلاثة أنواع منه، خاصة أن اختيار هذه الأنواع الثلاثة اعتباطي تماما.
لا يفوت القارئ أن يسجل أن داروين مرتبك فيما يريد أن يقوله في هذا الباب، فقد قال في البداية أنه لن يتعرض لمنشأ الغرائز، وذلك لأن فيها صعوبات ستطيح بنظريته، وأنه لذلك سيتحدث عن أنواع الغرائز فقط. لكنْ، ها هو ينحرف نحو التحدث عن التدرج الذي يؤدي حتما إلى التعرض إلى المنشأ.
وتماما كما تختتم قصص ألف ليلة وليلة بأن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، تنتهي كل قصة يرويها داروين بأن يسكت المنطق، ويتكلم الانتقاء الطبيعي. يقول:
عن طريق مثل هذه التعديلات في الغرائز التي ليست شديدة الروعة في حد ذاتها – من الصعب أن تكون أشد روعة من تلك الغرائز التي تقود أحد الطيور إلى بناء عشه – فأنا أعتقد أن نحلة الملاجئ قد اكتسبت من خلال الانتقاء الطبيعي قدراتها المعمارية الفذة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص: 422)
للتأكد من صحة هذا الاقتباس انظر في النص الأصلي:
By such modifications of instincts which in themselves are not very wonderful,— hardly more wonderful than those which guide a bird to make its nest,— I believe that the hive-bee has acquired, through natural selection, her inimitable architectural powers – [Paragraph 213].
إذن، هذه الغريزة ليست أشد روعة من تلك التي تقود أحد الطيور إلى بناء عشه. يقول داروين هذا مع أنه أخبرنا في البداية أن سبب اختياره التحدث عن هذه الحالات الثلاث (طائر الوقواق، والنمل الأحمر، ونحل الملاجئ) هو الآتي:
وهاتان الغريزتان الأخيرتان قد تم وضعهما في ترتيب علماء التاريخ الطبيعي، على وجه العموم، بصفتهما أكثر جميع الغرائز المعروفة روعة. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 405)
وعلى ذكر ادعاء أن غريزة بناء خلايا العسل متدرجة، وأنها ليست أشد روعة من بناء الطيور لأعشاشها، يتساءل القارئ: هل بناء الطيور لأعشاشها فيه تدرج أيضا؟ وماذا عن الاختلاف في كيفية بناء الإنسان لمسكنه في غابات أفريقيا، وعند سكان الجبال، وعند الأسكيمو في ثلوج القطب الشمالي؟ هل يا ترى هناك أيضا تدرج في هذه الأشكال من بناء البيوت؟ إن بناء النحل لخلاياه، وبناء الطيور لأعشاشها، وبناء أي كائن آخر لمسكنه ليس أكثر من ظاهرة تتأثر بظروف البيئة الطبيعية، وحاجات ذلك الكائن في تلك البيئة. إنه يدل على التنوع وليس على التدرج. داروين يعاني من مشكلة مزمنة في التفريق بين التنوع والتدرج.
لكن الأمر الإيجابي في الحديث عن غرائز نحل الملاجئ هو أن داروين سيقوم أخيرا بنفسه بتجربة مقتديا بالسيد تجيتمير Mr. Tegetmeier (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص: 423).
التجربة هي أنه يقوم بفصل مشطين للعسل، ويضع بينهما شريطا طويلا وسميكا ومستطيل الشكل من الشمع، ويراقب كيف يحفر النحل خلاياه، ويواصل داروين التلاعب بالنحل عبر تغيير الشرائط وألوانها، وأشكالها. ويبدو أنه يركز على الخصائص الرياضية للخلايا، فهناك في حديثه أرقام كثيرة، وقياسات عديدة لسمك الخلايا، وطولها، وغير ذلك. ورغم أنه لا يحدد فترة اختباراته لبناء النحل لخلاياه، إلا إن الاختبار يبدو أكثر جدية من صرف شهرين في السنة لمدة ثلاث سنوات في مراقبة النمل الذي تحدث عنه سابقا، فهذا أكثر شبها بالتجارب المختبرية، وهناك وصف حتى للصعوبات التي تعترض المراقبة التي يقوم بها، مثلا الأعداد الكبيرة من النحل، والصعوبة في فهم التنسيق فيما بينها.
لا يعرف القارئ الغرض من التجربة؛ هل هي لإثبات التدرج في الغرائز، أم ماذا؟ لكن النتيجة التي توصل إليها داروين ليست جديدة، وقد توصل إليها سابقا المرة بعد الأخرى، دون إجراء أية تجارب أو اختبارات. يقول:
وبما أن الانتقاء الطبيعي يعمل فقط عن طريق التكديس للتعديلات الطفيفة في التركيب أو الغريزة، ما دام كل منها مفيدا للفرد تحت تأثير ظروف حياته، فإنه من المعقول أن نتساءل:كيف أن تعاقبا طويلا متدرجا للغرائز المعمارية المتحورة، التي تميل كلها في اتجاه خطة التشييد المثالية الحالية، كان ذا فائدة لأسلاف نحل الملاجئ؟ وأنا أعتقد أن الإجابة ليست صعبة: فالخلايا المشيدة على نمط خلايا النحلة أو الزنبور تزداد في القوة، وتقتصد كثيرا في الجهد والمساحة، وفي المواد التي تدخل في تشييدها. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 428)
الانتقاء الطبيعي يقف وراء تعاقب طويل متدرج للغرائز المعمارية المتحورة، تميل كلها في اتجاه خطة التشييد المثالية الحالية. وكان ذلك ذا فائدة لأسلاف نحل الملاجئ! كيف أثبت هذا التدرج بهذه التجربة؟ لا نعرف. ومن أي شيء تدرجت هذه الغرائز؟ ماذا كانت في الأصل أو المنشأ؟ هل بدأ كل شيْ بغرائز النحل الطنان البدائية؟ وماذا كانت غرائز النحل الطنان في الأصل؟ والنحل الطنان ليس سلفا من أسلاف نحل الملاجئ، فهو موجود الآن سوية مع نحل الملاجئ!
إن الوصف الدقيق والمفصل لنشاط النحل في بناء الخلايا لا يلقي أي ضوء إضافي على ما سبق وتكرر عشرات المرات في حديث داروين عن دور الانتقاء الطبيعي، ومنافع التمايز للفرد أو النوع. والتجربة تبين بمجملها أن النحل يقوم بعمل رائع متبعا غرائزه. ما الجديد الذي أتت به هذه التجربة؟ من ينكر، أصلا، غرائز النحل؟ هل هذا هو هدف داروين في هذا الباب – أن يبين وجود الغرائز وعملها؟ إذا كان وصف الغرائز وعملها هو الهدف، فكان بإمكان داروين أن يترك ذلك لمربيّ النحل ليصفوها لنا، فمعرفتهم في هذا المجال لا حدود لها، فهم شاهدون على ما يقوم به النحل، ليس عبر تجربة، بل كل يوم، وفي كل موسم، وكل سنة. ماذا يريد داروين حقا أن يفعله في هذا الباب؟ الجواب في فهرس مواضيع الباب وفي الفقرة الأولى منه. يقول داروين تارة أنه لن يفعل هذا، أي البحث في منشأ الغرائز، ويتحدث تارة أخرى عن ذلك المنشأ. إنه يريد أن يبين أن الانتقاء الطبيعي حاضر في وجود الغرائز. وهذا أمر لا يفلح فيه لا في تناول غرائز النحل، ولا في تناول غرائز النمل، ولا في تناول غرائز طائر الوقواق. لكن تجربته الوصفية تبقى مفيدة لتوثيق عمل النحل.
الانتقاء الطبيعي قائدا محنكا!
في نهاية هذه الفقرة الطويلة عن نحل الملاجئ يعود داروين إلى الحديث مجددا عن روعة هذه الغريزة:
وهكذا، فأنا أعتقد أن الغريزة الأكثر روعة من بين جميع الغرائز، هي تلك الغريزة الخاصة بنحل الملاجئ، والتي من الممكن تفسيرها عن طريق الانتقاء الطبيعي الذي قد استفاد من العديد من التعديلات البسيطة المتتالية لغرائز أبسط. والانتقاء الطبيعي قد استطاع عن طريق تدرجات بطيئة أن يقود النحل باقتدار أكثر فأكثر إلى أن يقوم بتفريغ كرات متساوية على مسافات مضبوطة من بعضها البعض وفي طبقة مزدوجة، وأن يبني ويحفر الشمع على طول مستويات التقاطع … (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 429/430)
هل هي شديدة الروعة؟ أم هي ليست شديدة الروعة؟ لقد قال قبل قليل إنها ليست بروعة قيام الطيور ببناء الأعشاش. لكن أكثر ما يجذب الانتباه هنا هو قول داروين أن الانتقاء الطبيعي استفاد من هذه التعديلات البسيطة المتتالية، وذلك بدلا من الاحتفاظ بها، كما تعودنا أن نسمع منه. استفاد ماذا، ولماذا؟ استفاد من التعديلات في إيصال النحل إلى قدراته المعمارية الغريزية. ألا يعني هذا أن الانتقاء الطبيعي كان لديه، مسبقا، مشروع لإيصال النحل إلى قدراته المعمارية الغريزية، فجاءت تلك التعديلات فاستفاد منها لتحقيق مشروعه؟
ويواصل داروين حديثه:
… والانتقاء الطبيعي قد استطاع عن طريق تدرجات بطيئة أن يقود النحل باقتدار أكثر فأكثر إلى أن يقوم بتفريغ كرات متساوية على مسافات مضبوطة من بعضها البعض وفي طبقة مزدوجة، وأن يبني ويحفر الشمع على طول مستويات التقاطع … (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 430)
ألصق داروين بالانتقاء الطبيعي صفة أو قدرة جديدة، القائد المحنك الذي استطاع عن طريق تدرجات بطيئة أن يقود النحل باقتدار أكثر فأكثر! الانتقاء الطبيعي .. في الوقت الذي يقود النحل إلى ما هو عليه من مقدرة، يكون مشغولا، بطبيعة الحال، بأفراخ كل الطيور، يأخذ بأيديها، أو بالأحرى بأجنحتها، ويوصلها تدريجيا إلى القدرة على الطيران؛ وكذلك يفعل مع صغار الأسماك، يعلمها استخدام زعانفها للانزلاق في الماء، ومع صغار الثدييات، يوصلها إلى مص أثداء أمهاتها، بل وكان يساعد الأمهات على تكوين أثدائهن التي كانت تشبه ما للحيوانات الجرابية. إنه في كل مكان، هنا يطور أعضاء الكائنات الحية، فيحول مثاناتها إلى رئات، وهناك يستفيد من العادات الفردية فيقوم بإدخال التعديلات الطفيفة والمتتالية لتطوير غرائز إناث طيور الوقواق في وضع بيضها في أعشاش غيرها من الطيور، أو في إكساب نحل الملاجئ قدرات معمارية فذة تتطلب المعرفة بالرياضيات والهندسة.
وفي كل هذا، يقول داروين:
… والنحل بالطبع لا يعرف الحكمة التي تكمن وراء تفريغه لكراته على بعد معين من بعضها البعض، أكثر من معرفته ما الزوايا المختلفة للمناشير السداسية وصفائح القاعدة المعينة الشكل. فإن القوة الدافعة لعملية الانتقاء الطبيعي قد كانت لتشييد الخلايا بالقوة المطلوبة وبالحجم أو الشكل الصحيح لليرقانات، وهذا قد تم إنجازه بأقصى حد ممكن من الاقتصاد في الجهد والشمع. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 430)
الكائن الحي يفعل شيئا وهو لا يعرف الحكمة منه (هذه هي طبيعة الغريزة)، لكن الانتقاء الطبيعي هو من يريد له أن يقوم بتشييد الخلايا بالقوة المطلوبة وبالحجم أو الشكل الصحيح لليرقانات، وإنجاز ذلك بأقصى حد ممكن من الاقتصاد في الجهد والشمع. إن الانتقاء الطبيعي، إذن، ليس واعيا وحسب بما لا يعيه الكائن الحي نفسه، بل ولديه، كما قلنا، خطة لهذا الكائن الحي، وهذه الخطة تشمل وجوده الجسدي، والخصائص الغريزية أيضا التي لا تبقيه فقط على قيد الحياة، بل وتمنحه الكفاءة التامة، والاقتصاد في الجهد، وفي كل شيء.
الغرائز الااقتصادية!
ويختم داروين حديثه قائلا:
ولو وجدت هذه الجماعة المنفردة من النحل التي تتمكن بهذه الطريقة من صنع أفضل الخلايا بأقل جهد، وأقل تبديدا للعسل في إفراز شمع، فإنها سوف تكون صاحبة أكبر إنجاز، وعن طريق الانتقال لغرائزها الاقتصادية المكتسبة حديثا إلى جماعات جديدة، فإنها بدورها سوف تحظى بأحسن فرصة للنجاح في الكفاح من أجل البقاء. (ترجمة “أصل الأنواع”: الدكتور مجدي محمود المليجي – عام 2004، ص 430)
يسأل القارئ: لماذا لو وجدت؟ إنها موجودة، أليس كذلك؟ وما معنى التذكير المفاجئ بالكفاح من أجل البقاء؟ أي كفاح من أجل البقاء؟ النحل لا يصارع على الغذاء، بل هو يصنع الغذاء لغيره! ثم إن نجاح هذه الكائنات في البقاء على قيد الحياة لا يرتبط إطلاقا بقدراتها الحالية، فإذا كانت هذه القدرات الغريزية قد تطورت تدريجيا من منتهى البساطة والبدائية إلى منتهى التعقيد والتطور، فهذا يعني شيئا واحدا: أن هذه الكائنات كانت قد نجحت في البقاء على قيد الحياة، وهي لا تملك من القدرات إلا ما هو بدائي وبسيط، وبقيت على قيد الحياة في كل المراحل التي مرت بها، بصرف النظر عن درجة تطور قدراتها.
داروين يذكرنا فجأة بالصراع من أجل البقاء لسبب واضح تماما. إن المتوقع من كتاب علمي يبحث في مثل هذه الأمور المتشعبة أن يبقي الخيوط مترابطة، بحيث نرى الأفكار المطروحة في البداية تبرز في كل فصل جديد، وتكتسب قوة جديدة بالمزيد من الأدلة والبراهين. ويجب أن يحدث هذا مع كل فكرة جديدة، حتى إذا وصلنا إلى نهاية الكتاب تكون الأفكار قد تعددت، وتراكمت، وترابطت، وتكاملت، وتوثقت، وتأكدت، وصارت مقنعة. هذه الميزة العلمية يفتقر إليها كتاب داروين، فمع ازدياد صفحات الكتاب، وتشعب المواضيع، لا يبقى من الفصول السابقة، إلا شيء واحد يتكرر بلا معنى، ألا وهو عبارة “الانتقاء الطبيعي”. ولهذا، يريد الرجل بذكر الكفاح من أجل الحياة ربط هذا الباب بالبداية، لكنه لا ينجح في ذلك، لأنه فند في هذا الباب كل ما قاله سابقا.
يتبع ..
2021-03-05