اشترك فى الأبدية.. عش الآن وادفع لاحق!
مهدى مصطفى
قال جرير ساخرا من الفرزدق: أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مرْبعُ، ولو عاش فى زماننا لقالها لتجار الخلود فى وادى السيليكون، الذين يبيعون الوهم بزجاجات مصقولة وشعارات براقة.
العالم اليوم يعيد تمثيل أقدم مشهد فى التاريخ: مفاوضة الموت.
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، يهمس للرئيس الصينى شى جين بينج، فى عرض عسكرى ببكين، كما نقلت الصحافة العالمية، عن قدرة البشر على العيش مائة وخمسين عاما باستبدال الأعضاء التالفة، فيجيبه شى بابتسامة صينية متقنة: سنصنع الدواء الذى يطيل العمر حتى ذلك الحد، مشهد يليق بعصر يظن أن الفناء خلل برمجى يمكن إصلاحه بتحديث النظام البيولوجى.
الحقيقة أن أول من فاوض الموت لم يكن الصينى أو الروسى، إنما كان المصرى القديم حين حول الفناء إلى هندسة مقدسة، لم يخف من الموت قط، فقد نظمه بدقة الكهنة.
فى نصوص الأهرام، وكتاب الموتى، رسم خرائط عبور الروح إلى الأبد، وحين فشل الجسد فى الصمود، حفظ الاسم والنقش، فصار الخلود مهنة بلا معجزة، وصنعة تقوم على الحفظ وليس الحقن.
ومن ضفاف النيل انتقل السر إلى بلاد الرافدين، جلجامش، ملك أوروك، خرج يبحث عن عشبة الخلود فى أقدم نص أدبى معروف، ثم إلى فارس القديمة، حيث رأى زرادشت أن الروح تخلد وحدها، وأن النور طريق النجاة، ومن هناك إلى الهند التى اخترعت فكرة التناسخ لتمنح الروح تذاكر عودة لا نهائية، أما الإغريق فكانوا أكثر أناقة مع الموت: جعلوا الخلود شأنا فلسفيا، مسكنا للأبطال فى جبال الأوليمب الخالية من الشيخوخة.
وفى قلب هذا التاريخ يقف إدريس، الذى سماه المصريون تحوت، رمز الحكمة والكتابة والطب، وقالت الروايات إنه أول من علم البشر سر البقاء بالمعرفة وليس بالعقار.
وفى اليونان ظهر مجددا باسم هيرمس مثلث العظمة، معلم الخيميائيين، أن الذهب الحقيقى هو الوعي، وليس المعدن، وأن الخلود لا يستخرج من المعمل إنما من العقل.
فى بابل كان السحر طريقا، فى فارس كان النور، فى اليونان كان الفكرة، أما فى مصر، فكان الخلود نظاما دقيقا مثل تقويمها الدقيق، مكتوبا على الحجر كى لا يضيع المعنى فى فوضى الزمن.
ثم جاءت العصور الوسطى، فبدل أن يبحث الكهنة عن الروح، بدأ الخيميائيون يبحثون عن حجر الفلاسفة لتحويل المعادن إلى ذهب، والعمر إلى أبد، وفى الشرق الإسلامى تحدث جابر بن حيان عن الإكسير الأعظم، لكنه كان أذكى من أن يبيعه فى زجاجات، فقد جعله مجازا للمعرفة والكمال وليس دواء بيولوجيا.
فى الصين، كان الإمبراطور تشين شى هوانج أول ضحية رسمية لفكرة الخلود الصناعى، شرب الزئبق معتقدا أنه سيعيش إلى الأبد، فمات فى التاسعة والأربعين.
فى القرن العشرين صار شعار العلماء: «لن ننتظر البعث، سنصنعه»، فظهرت مشاريع لإبطاء الشيخوخة وهندسة الخلايا، وبدأ سباق جديد بين واشنطن وموسكو وبكين على امتلاك العمر، كما امتلكوا القنبلة الذرية.
وفى القرن الحادى والعشرين، صارت الشركات المملوكة لجوجل والمدعومة من الملياردير جيف بيزوس، تمول مختبرات تحاول «كسر حاجز الشيخوخة»، كما لو أنه جدار برلين جديد.
فى كاليفورنيا، تباع منتجات «إطالة العمر»، كما تباع تطبيقات الذكاء الاصطناعى، وتعرض مشاريع استبدال الأعضاء البشرية، كما تعرض السيارات الكهربائية.
إكسير اليوم مصنوع من بذور العنب، ومغلف بعلامة تجارية فاخرة، لكنه لا يختلف كثيرا عن الزئبق الذى شربه الإمبراطور الصينى سوى فى التغليف.
فى زاوية أخرى من الزمن، يجلس تحوت وإدريس وهيرمس وجابر بن حيان فى مقهى أسطورى يطل على الأهرامات، يراقبون مختبرات الغرب، وهى تتبارى فى سباقات بين الخلايا، أحدهم يبتسم ويقول: لقد جربنا الخلود قبلكم، فوجدناه فى الحكاية لا فى استمرار النبض الضعيف.
الخلود الذى يبيعونه اليوم بكبسولة كان يوما قصيدة، نقشا، ضحكة على جدار معبد.
توت عنخ آمون مات فى التاسعة عشرة، لكنه يعيش منذ ثلاثة آلاف عام، بينما يموت بعض الأحياء كل صباح رغم أن قلوبهم تخفق.
وفى سوق الخلود الحديثة، تكتب الشركات على لافتاتها: عِش حتى المائة والخمسين وادفع لاحقا، كأنها تبيع اشتراكا فى الأبدية.
من دون عدل أو معنى، فإن العمر الطويل مجرد تمديد للفراغ، وزيادة فى وقت البث قبل انتهاء الحلقة الأخيرة.
2025-11-13