ا.د.عامر حسن فياض
تميز البناء الفكري الفارسي القديم بغلبة الطابع الديني عليه. حيث تشكلت معالم العقلية الفارسية القديمة تحت تأثير العقائد الدينية التي صيغت في ضوئها افكار الفرس وتأملاتهم في مختلف جوانب الحياة واوجهها مما يجعل دراسة البناء الفكري لفارس القديمة والبحث فيه، يتخذ في جانب كبير منه صورة دراسة وبحث في الديانات الفارسية القديمة. ولكن الوثائق التاريخية لم تحفظ لنا الكثير عن الديانة الفارسية في عصورها المبكرة، اذ لم يدون كتاب الفرس المقدس (زندافيستا) الا حوالي القرن السادس الميلادي، فضاع جراء ذلك الجزء الاكبر من العقائد الدينية الفارسية، واختلط ما بقي منها بالكثير من الافكار والعقائد الاخرى. ولكن ما بقي من تلك الديانات وعقائدها، يسمح بالقول بأن الديانة الفارسية الاولى التي دعيت (عقيدة الشعب)، كانت تقوم على عبادة العناصر الاولى (النار والهواء والماء والتراب) وتقديس كل مظاهر الحياة الطبيعية، وانها كانت في اول امرها تقدم الاضاحي البشرية. ثم استبدلتها لاحقا بالاضاحي الحيوانية. هذا ما يتعلق بعقائد عامة البشر، اما عقائد الخاصة، فقد كانت عقائد ثنوية، حيث كان كثير من ملوك الفرس يؤمنون بالالهين (ميترا واناهيتا)وغيرهما من الهة الشعب، الا انهم كانوا يضعون على رأس هذه الالهة جميعا الاله (اهورامزدا) الذي كان الها غير مرئي، ولم تكن له اماكن خاصة لأن كل بقاع الارض معابد له، اما النار فلم تكن الا رمزه فحسب.
وبقي هؤلاء الملوك يعبدون (اهورامزدا) عبادة حرة غير مقيدة بتعاليم حتى اواخر القرن الخامس قبل الميلاد عندما بدأ انتشار الديانة الزرادشتية وتبنيها رسميا وتطبيق تعاليمها وطقوسها. ويتفق اغلب الباحثين على ان زرادشت، ظهر حوالي نهاية القرن 8ق.م. وان تاريخه الديني مفعم بالاساطير الشعبية الغربية التي لا تخلو منها عقائد عقائد شعب من الشعوب، كالقول بأنه ولد ضاحكا، رافعا وجهه ويديه نحو السماء، وان ليلة مولده شهدت معجزات راها الخاصة والعامة. وانه سحر الملوك ببراهينه، ولكن التاريخ يخبرنا بأن زرادشت نشأ في بيئة ريفية متواضعة، كانت تواجه عدوان جيرانها وغزواتهم، لذلك كان اكثر ما يشغله في شبابه هو النجاة بنفسه واسرته من غزوات القبائل البدوية التي كانت تهدد اطراف الاقاليم الكبرى في ذلك العصر، وانعكس ذلك على افكاره وعقائده، فعارض الدين القديم، ودعا لحماية الاخلاق، وجعل الخلود النفسي اسمى الغايات، واعظم ثواب للفضائل الانسانية، اما القتل لأجل السرقة والنهب في الغارات والغزوات، فهي عنده افظع انواع الجرائم حتى وان كانت بحق الحيوان، ولكن ما تميزت به افكاره من السمو والمثالية الاخلاقية، لم يمنعانه من الاهتمام بالانسانية المادية من مال وجاه وجمال ..الخ، والتي افسح لها مكانا كبيرا في صلواته وادعيته.
ومرجع الديانة الزرادشتية هو كتابها الـ(افيستا) الذي رجع تاريخه الى حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، ولكنه لم يجمع الا اواخر القرن الخامس الميلادي، واهم عقائدها وافكارها:
1 ان جميع الالهة في تاريخ العقائد الدينية هي الهة محلية بحيث يكون لكل شعب الهته.
2 ان “اهوارمزدا” ليس الها فارسيا محليا، بل هو اله الكون كله، وزرادشت هو النبي الذي تلقى الوحي من هذا الاله الكوني الذي ليس له شريك، ولكن له خصم دونه في الرفعة والعظمة، هو “اهرمان” اله الشر الذي سينهزم امامه على مر الزمن.
3 ان الاله “اهورامزدا” هو الخير، فهما اسمان لشيء واحد، وبذلك يصبح الخير هو اساس العقيدة الزرداشتية وجوهرها.
4 ان اول واجب ديني هو نشر الخير والقضاء على الشر، واهم الوسائل لذلك هي تقوية النوع البشري ونشر الخصوبة والعمران على سطح الارض.
5 ان الانسان كائن مركب من جسد وروح، والجسد مكون من اربع عناصر “العظم واللحم والقوة الحيوية والصورة او القالب” والعنصر الاخير، القالب او الصورة، هو وحده الذي يعود الى الحياة عند البعث دون العناصر الثلاثة الاخرى الفانية.
وفي كل الاحوال، فأن ابرز ما في الزرادشتية هو جانبها الاخلاقي، فأهم الفضائل عندها واجلها هي العدالة والعفة والاخلاص والصدق واهم الواجبات الدينية هو العمل على تنمية النوع البشري وتقويته، اما الفضائل الثانوية فهي الاحساس بالسرور، ومهاجمة الاعداء والدفاع عن النفس والوطن، وتعد هذه الاخيرة من الواجبات المقدسة عند الزرادشتية.
2022-09-08