مؤتمر موسكو للأمن الدولي والرغبة الدولية في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب!
عميرة أيسر
يبدو أن مؤتمر الأمن الدولي الذي عقدته روسيا وحضره ممثلو أكثر من 130 دولة، يعكس رغبة دولية متزايدة في احداث تغيير جذري في بنية النظام الدولي الحالي، والانتقال من نظام غربي أحادي القطبية لنظام دولي متعدد الأقطاب، وبالتالي تقسيم النفوذ العالمي بين القوى الغربية القديمة و القوى الشرقية الجديدة المتمثلة في دول كالصين وروسيا والهند، فالنظام الدولي العادل هو مطلب لكل الشعوب التي عانت خلال الحقبة الاستعمارية الغربية المختلفة، كالحقب الفرنسية والبريطانية والأمريكية من الظلم والاضطهاد والاستعباد، وفرض عليها أن تبقى سيادتها واستقلالها الجزئي مرهونين بالخضوع والاستسلام للإرادة الأمريكية، التي كرست واقعاً دولياً ميكيافيلياً، حيث تعاملت ببرغماتية شديدة مع المواثيق والمعاهدات الصادرة عن المؤسسات الدولية، التي كانت المشكّل الرئيسي لها، بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة صندوق النقد الدولي الذي يعتبر من أهم أدواتها المالية لإفلاس الدول وافقارها، وتكريس الفساد والمحسوبية وسرقة أموالها، فروسيا قد بعثت برسالة سياسية مهمة لواشنطن، من خلال هذا المؤتمر الذي يأتي رداً على حزمة العقوبات الاقتصادية والسّياسية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في منظومة حلف الناتو عليها، بغية شلّ اقتصادها والتأثير السلبي على الرأي العام الداخلي الداعم للعملية العسكرية التي يقوم الجيش الروسي بتنفيذها في أوكرانيا، والتي تعتبرها واشنطن تهديداً مباشراً لمصالحها الجيو سياسية في أوراسيا التي لها أهمية استراتيجية كبيرة في المنظور الأمريكي للسيطرة على عدة أقاليم جغرافية في هذا العالم، مثلما ذكر ذلك زبينغو بريجنسكي المفكر السياسي الأمريكي في كتابه ” رقعة الشطرنج الكبرى” ص 31، عندما قال: بأن أوراسيا هي القارة الأكبر على كوكب الأرض، وهي محورية جيوسياسياً، ومن شأن أي قوة تسيطر على أوراسيا أن تتحكم باثنين من أقاليم العالم الثلاثة الأكثر تقدماً وانتاجية اقتصادية، وأي نظرة مجرد إلى الخارطة توحي أيضاً بأن من شأن التحكم بأوراسيا أن يفضي على نحو شبه ألي إلى اخضاع إفريقيا، 75 بالمئة من أهل العالم يعيشون في أوراسيا، والجزء الأكبر من ثروة العالم المادية موجودة فيها، في مشروعاتها كما تحت أرضيها، كبرى اقتصاديات العالم الستة الأضخم انفاقاً على التسلح والعسكر بعد الولايات المتحدة الأمريكية واقعة في أوراسيا، ودولتا العالم الأكثر شعبوية الحالمتان بالهيمنة الإقليمية والنفوذ العالمي أوراسيتان”.
فاجتياح أوكرانيا يؤرخ كما أشار لذلك وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في كلمته التي ألقاها في خصم هذا المؤتمر الأمني، لنهاية عصر الأحادية القطبية، وظهور عالم يتميز بتعدد مراكز صناعة القرار العالمي، وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال حديثه لصحيفة ” لو بينت”، حيث ذكر بأن العالم يمر بفترة تحول عالمي، ولم يعد عالماً ثنائي القطب، بل عالم متعدد الأقطاب. مثلما ذكر موقع الخليج الجديد، بتاريخ 17 أوت/أغسطس 2022م، في مقال بعنوان( عالم متعدد الأقطاب).
فالدول الكبرى المشكلة للنظام الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ترتبط كلها ما عدا روسيا والصين بأمريكا، وكلها تدور بالتالي في فلك المنظومة الغربية، وتعتبر بمثابة تابع للسّياسة الأمريكية التي تضع مصالحها الجيواستراتيجية كهدف سامي و مستمر تسعى لتحقيقه، ولو على حساب مصالح وقيم المنظومة الغربية التي أنشأتها، فالقانون الدولي وحقوق الإنسان ومَؤسسة المجتمع الدولي، كلها أدوات بيدها من أجل إقناع الشعوب الغربية بأن تظل دوماً خاضعة وخانعة، ولا تستطيع الابتعاد أو فك ارتباطها الاستراتيجي التاريخي مع واشنطن، التي تتصرف بشكل منفرد ومستقل في سعيها الدؤوب للسيطرة على المشاعات الاستراتيجية، في مختلف النقاط الحيوية في مختلف أقاليم وقارات العالم، وخاصة في سعيها للسيطرة على المضائق المائية الاستراتيجية والثروات الباطنية و المعدنية في مختلف البحار والمحيطات، فالهيمنة الأمريكية التي بدأت تتأكل بفعل عدة عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية وسسيولوجية وحتى عسكرية، تسعى لمنع قيام نظام دولي متعدد الأقطاب، باستعمال شتى الوسائل المشروعة والغير مشروعة، أو في أحسن الأحوال السماح بقيام نظام دولي متعدد الأقطاب ولكن خاضع بشكل شبه تام للآليات والميكانيزمات، والأطر القانونية والمؤسساتية التي صاغت على أساسها النظام الدولي الذي حكم العالم على مدار 70 سنة، وعدم أحداث تغييرات جوهرية تمس بنية هذا النظام أو المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها واشنطن، وتوجهها كيفما تريد لحماية حلفاءها عندما يتعرضون للمساءلة القانونية الدولية، أو عندما يرتكبون جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضدّ الإنسانية، كما فعلت ولا تزال مع كل قيادات الكيان الصهيوني المجرم، وذلك عندما استخدمت حق الفيتو لمنع صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يقضي بمنع مقاضاتهم في المحاكم الدولية، ووصل بها الأمر لحدّ التهديد العلني لقيادات حركة فتح الفلسطينية بمنعهم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وادراج اسم الحركة على لوائح الارهاب الدولي، كما كشف عن ذلك عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي لوسائل الإعلام بمناسبة مهرجان عقد في قصر الثقافة الملكي بالأردن، حيث أمام اللثام عن تلقي تهديدات من قبل واشنطن تقضي بإغلاق مكاتب حركة فتح، ووضعها على لوائح المنظمات الإرهابية في حال تمت محاكمة قادة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما ذكر موقع شبكة الأناضول، بتاريخ 9جانفي/ يناير 2016م، في مقال بعنوان (قيادي في فتح: أمريكا هددت بوضعنا على قائمة الارهاب في حال محاكمة قادة إسرائيل).
وهذا ما أشار إليه ضمنياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال كلمته التي ألقها في هذا المؤتمر الأمني بالدرجة الأولى، حيث أن التحديات والأخطار الراهنة التي تحيط بالمجتمع الدولي، كظاهرة انتشار الارهاب، والجريمة المنظمة، و ازدياد خطر الهجومات السيبرانية التي باتت من أهم التهديدات التي يمكن أن تعصف بالأمن القومي للدول، وكذا ازدواجية المعايير الدولية التي تتعامل بها واشنطن مع القضايا الدولية، ورغبة دول كإيران و البرازيل وجنوب إفريقيا والجزائر ومصر و إندونيسيا والسعودية في لعب دور أكبر على المسرح الدولي، انطلاقاً من حجم الامكانات الاقتصادية والبشرية، وحتى العسكرية التي تحوزها، بالإضافة لما وتمتع به من دور إقليمي فعال في حيزها الجغرافي.
كل هذه الأمور قد دفعت روسيا إلى المضي قدماً في مشروعها العالمي غير أبهة بالتصريحات التي أطلقها أعمدة الإدارة الأمريكية، عندما اعتبروا بأن المحاولة الروسية لتغيير قواعد اللعبة الدولية هي محض خيال، فروسيا لا تمتلك القدرة أو القوة أو التأثير اللازم لتحمل تكاليف بناء هكذا نظام حتى ولو ساندتها الصين التي تعتبر من أهم حلفاء روسيا الاستراتيجيين في قارة آسيا.
فالنظام العالمي المتعدد الاقطاب، والذي يعد الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان أول من استخدمه في خضم الحرب الباردة، ثم تحول إلى مصطلح مبتذل منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، واختيار الشيوعيين في الصين للنظام الرأسمالي، كما قال الكاتب الإيراني أمير طاهري في مقال له بعنوان” نظام بوتين العالمي الخيالي”، فهذا النظام الدولي الجديد الذي من المفروض بأنه سيتشكل من عدة دول، يعتقد الكثيرون بأنه سيصطدم بالكثير من العقبات والعراقيل، وخاصة في ظلّ تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بمواقفها الثابتة في معارضة أية دولة مهما بلغ حجم نفوذها وقوتها في النسق الدولي، تحاول تطبيق القانون الدولي لتغير موازين القوى على الأرض، أو لتفكك الألغام التي زرعتها واشنطن في مناطق جغرافية محددة، كالقضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية، أو رفع وصايتها على تايوان، والسماح بعودتها للصين، أو سحب قواتها من مناطق النزاعات والحروب كسوريا والعراق وليبيا، فكل هذه المواضيع الشائكة وغيرها ستكون بمثابة عوامل فشل استراتيجي لهذا النظام الدولي اللامركزي، والذي لن يخدم مصالح الإدارة الأمريكية بما يضمن استمرار سيطرتها العالمية بكل تأكيد.
– كاتب جزائري
2022-08-18