قصة “رجال في الشمس” للمرحوم غسان كنفاني، والذي مرت الذكرى الخمسين لاستشهاده الشهر الماضي، تتحدث عن ثلاثة مسافرين فلسطينيين كانوا يسافرون تهريباً إلى الكويت في صهريج يقوده رجل عاقر فاقد لرجولته اسمه “أبو الخيزران”، قام بإغلاق الصهريج عليهم حتى يتمكن من اجتياز نقطة الحدود، وحين عاد إليهم بعد أن أنهي ثرثرته مع عسكر الحدود عن مغامراته النسائية المتخيلة، كانوا قد ماتوا اختناقاً.
أبو الخيزران دق رأسه بجدار الصهريج، وطرح سؤال يحمّل الضحايا مسؤولية مأساتهم: “لماذا لم تطرقوا جدار الخزان؟” ولكن السؤال الأصعب الذي ما زال يكبر مع تكرار المأساة هو “ضمانات عدم تكرارها”. وهذا يتطلب السيطرة على العامل المركزي الذي يمنع تكرارها.
بدءاً لا يمكن ضمان عدم وجود الضعفاء والأشرار في الحياة. أبو الخيزران (أو الذي يسعى لإغماض اعين الناس وتحويلهم إلى فرصة ربح) باقي ومتكرر وسوف نراه في كافة المجالات وصولاً إلى قائد دولة مستبد فاسد مثل الملك عبد الله الثاني يحمل الشعب مسؤولية كارثة انفجار صهريج الغاز في العقبة. كذلك العساكر التافهين الذين تحصل المآسي تحت أنوفهم وهم يستحلبون “عسل الأكاذيب من مخيلة عنين” باقون ما بقي الشعب مهمشاً. كما أن الضعفاء الطيبين (أطفال، أو اشخاص سذج أو جبناء) الذين قد يقبلون بالسفر في حاويات مغلقة عنصر متكرر في أي مأساة.
لقد واجه الإنسان المآسي بمقاربتين اثنتين: الأولى هي المقاربة الأخلاقية -وقد أثبتت تجربة آلاف السنين أنها لم تكن ضمانة كافية لعدم تكرار المآسي- التي منحت الشرعية للدفاع عن الضعفاء والتصدي لكافة أشكال الشر. والثانية هي صياغة قواعد للممارسة تميز بين الفعل الصائب والفعل الخطأ، كما أنها “تربط الصواب العملي بالقيمة الأخلاقية”، وتضبط الممارسة -من تشغيل الآلات وقيادة المركبات و”دق الأبر” إلى إدارة الدولة- وتضمن تطبيقها بالرقابة على الأداء وتقييمه بالأثر والنتائج وبمعاينة تفاصيله.
والربط بين الصواب العملي والقيمة الأخلاقية هو الرافعة المركزية لإزالة الشرعية عن كل أشكال أبي الخيزران، وتحديد مهمة المدافعين عن الضعفاء بأنها تقديم النموذج لخوض المعركة مع المستبدين على خطوط مواجهة هدفها حماية قواعد الصواب العملي، والتصدي لأي محاولة لأخذ الناس في صهاريج معصوبي الأعين كما يفعل المستبدون الفاسدون.
فضاءات خصوبة امتزاج الحكمة بالبطولة تظهر بربط الصواب العملي بالقيمة الأخلاقية. وهذا مجاله صياغة القواعد الناظمة للممارسة وانفاذها عبر “تجرّيم” استعمال حاويات مغلقة للسفر وتوفير وسائل سفر مناسبة، ومنع أبي الخيزران من أخذ الناس مغمضي الأعين إلى نهايات مأساوية.
وحتى لا نتحول جميعاً في الأردن إلى أبي خيزران نلوم ضحايا مأساة انفجار صهريج غاز العقبة، لا بد من التصدي لخطاب تحميل المسؤولية (للعاملين في الأجهزة الإدارية)، وذلك بالعمل على تحرير آليات العمل المؤسسي وحماية “الضمير المهني للمؤسسات” من تدخل الملك وعائلته. الخلل ليس في الشعب، وإنما في تدخل الملك وعائلته بعمل المؤسسات.
إذ أن حديث الملك المرسل عن مأساة حاوية الغاز في العقبة في مقابلته مع جريدة الرأي يوم 24 تموز الماضي، وتوجيه اللوم إلى الجهاز الإداري (” فالحادثة مؤلمة بكل تفاصيلها، وقد كشفت لنا عن جوانب التقصير الإداري “) ليعفي نفسه من تحمل المسؤولية هو تكرار لسلوك أبي الخيزران، وإن تضمن حديثه نوايا شريرة لتوظيف المأساة لتعزيز سلطاته الإدارية، فيقول: “لا يمكن البقاء في دوامة التشخيص دون البدء بمعالجة جذرية تسهم في تفعيل أداء الجهاز الحكومي”. وهذه العبارة التي تثبت إضافة إلى عدم اتزانه المعرفي، إصراره على أن يأخذ الشعب الأردني بصهريج “الإصلاح الإداري” معصوبي الأعين. وحتى يمنح نفسه غطاء لممارسته غير المشروعة، فإنه يسارع لإطلاق موعظته الاستثنائية “العمل العام خدمة وشرف”، وهو يعي انه ليس نموذجا يحتذى به، ولكن إطلاقها ضرورة للتغطية على مساهمته هو وعائلته بتدمير الضمير المهني للمؤسسات بتدخلاتهم المباشرة، حيث تحولت “الأوامر من فوق” لممارسة روتينية في كافة المؤسسات من دائرة الأراضي إلى القضاء مروراً بالجامعات والمستشفيات والأجهزة الأمنية والمؤسسة الدبلوماسية.
إن من يلوم الضحايا ويحمل الشعب مسؤولية ما يقوم به المستبد الفاسد، حتى لو “دق رأسه بالحيط”، وادعى شرعية نضالية وأنه من جرحى الماضي، هو “أبو خيزران”، ويقدم خدمة مجانية للزعيم المستبد الفاسد الذي يسعى لتحميل الشعب المسؤولية عن المآسي الناتجة عن تدخله في عمل المؤسسات كوسيلة لتبرير تعزيز سلطاته عليها. فكلاهما يجلد بالشعب؛ أبو الخيزران يلوم الناس على عدم الفعل ليخفي فقدانه لرجولته، والمستبد الفاسد يحمله مسؤولية كل المآسي لتبرير استيلائه هو وعائلته على كل السلطة والموارد.
أخيراً، إن المهمة الكبرى لضمان عدم تكرار مأساة اختناق الناس داخل الصهاريج او بسبب انفجارها، هي كسر الجدار عبر ربط الضرورة العملية (الصواب العملي) بالقيمة الأخلاقية. وأردنياً هذا يعني التصدي لاحتكار الملك للسلطة والموارد، بتطوير القواعد الناظمة لممارسة السلطة وربطها بالقيمة الأخلاقية، وتقديم النموذج النضالي من أجل إنفاذها. ومن لا يحارب الاستبداد والفساد ويسعى لعدم تكراره -بحجة ان الشعب لا يثور- هو أبو خيزران فاقداً للرجولة وعقيم سياسياً، ويخدم المستبد الفاسد بشكل مجاني.