القطيعة اليهودية مع الصهيونية باعتبارها شوفينية “عرقية”!
ريتشارد روبنشتاين – ترجمة: غانية ملحيس*
لقد حدث شيء ما فيما يتصل بالحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل في غزة لم يتوقعه أحد. ولم يرغب حتى الآن سوى قلة من الناس في مناقشته.
ولا يمكن تلخيص ذلك بالأرقام ــ ليس حتى عندما يتجاوز عدد القتلى والمفقودين الفلسطينيين الآن 38 ألفا وعندما يتجاوز العدد الإجمالي للضحايا 120 ألفا ــ وهو ما يعادل من حيث عدد السكان 14 مليون أميركي. ولا يمكن التعبير عن ذلك بوصف آثار المجاعة والمرض والأضرار النفسية على أكثر من مليوني غزي من الناجين، والذين نزح 85% منهم من ديارهم، والذين يواجهون الآن ضربات جوية وبرية مستمرة تستهدف القوات المتبقية من حماس.
لقد عانى الإسرائيليون أيضا بشكل كبير، بدءا بخسارتهم 1200 جندي ومدني على يد مهاجمي حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر/ 2023. وكان أحد آثار هذا الهجوم الوحشي إعادة فتح جراح الهولوكوست، وإعادة صدمة شعب مدرك بالفعل لضعفه التاريخي. لكن نتيجة رد فعل حكومتهم الدموي على هذا العنف، الذي اعتبرته المحكمة الدولية -بشكل معقول – إبادة جماعية، إلى جانب فشلها في الاعتراف بالمصادر الأساسية للبؤس والغضب الفلسطيني، قطعت الروابط التي تربط الإسرائيليين بحلفاء متعاطفين ومنتقدين ودودين في جميع أنحاء العالم.
كان لدى الصينيين القدماء عقيدة حاولت تفسير العلاقة المقطوعة بين الإمبراطور والشعب. قالوا إن الحاكم الذي فقد “ولاية السماء” سينظر إليه إلى الأبد على أنه غير شرعي وغير جدير بالطاعة.
لدى اليهودية والمسيحية نسختهما الخاصة من هذه العقيدة. كلاهما يفهم أن شرعية النظام تعتمد، في النهاية، على قدرته واستعداده لمعاملة رعاياه وجيرانه بالعدل.
إن سوء المعاملة المنهجي لمكوناتها الداخلية، أو للدول الأخرى يحرم الحكومة من الحق في المطالبة بالولاء والاحترام.
وفيما يتعلق بإسرائيل، يتفق العديد من المراقبين على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو فقد أي حق في هذا النوع من الشرعية.
وهم يدركون أن معارضته العنيدة للدولة الفلسطينية. وترويجه للاستيطان اليهودي الضخم في الأراضي المحتلة. ودعمه غير المباشر لحماس في الماضي. كلها مسؤولة جزئيا على الأقل عن المذبحة الحالية في غزة.
ولكن لا يمكن تعريف المشكلة بتوجيه أصابع الاتهام إلى بنيامين نتانياهو أو وزرائه الأكثر تطرفا. فالعلاقة التي تنقطع لا تقتصر على الحكومة الإسرائيلية الحالية، بل وأيضا على النظام الذي أنتجها
إن النظام الذي يسكنه حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، إلى جانب أحزاب إسرائيلية أخرى تتراوح من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، هو نظام صهيوني. وهذا يعني أنه يعكس إجماعا على أن المهمة الأساسية لدولة إسرائيل هي أن تكون ملاذا ووطنا لليهود في جميع أنحاء العالم. ووسيلة للتعبير عن مصالح وقيم اليهود الإسرائيليين في شكل وطن .
والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنه إذا بدا أن تنفيذ هذه المهمة مهدد بأفعال مجموعات أخرى – مجتمعات غير يهودية داخل الدولة، أو أنظمة وطنية أخرى – فيجب تفضيل المصالح الإسرائيلية اليهودية على جميع المصالح الأخرى.
وفقا للقانون الأساسي الإسرائيلي لعام 2018، فإن “الحق في تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل للشعب اليهودي فريد من نوعه”. ولأن الدولة هي مجتمع مخول بفرض معاييره بالعنف، فإن هذا التفضيل المنهجي للهوية والمصالح اليهودية يخلق مبررا لـ “العنف البنيوي” . على سبيل المثال، اللوائح التمييزية التي يطلق عليها الفلسطينيون “الفصل العنصري” ضد غير اليهود.
لقد أدرك أغلب اليهود الأمريكيين لفترة طويلة أن هناك توترا بين الصهيونية والقيم الأخلاقية التي ساعدت اليهودية العالم على اكتشافها.
وهذا التوتر ليس خاصا بالصهيونية، بل إنه ينشأ كلما بدا أن المعتقدات والممارسات القومية تتعارض مع المصالح والاحتياجات الإنسانية الأكثر عمومية.
ويبدو التوتر حادا بشكل خاص عندما تختلط القومية بالهوية العرقية أو الدينية، لأن اليهودية وغيرها من الديانات العالمية تزعم أنها تجسد وتروج لقيم عالمية قابلة للتطبيق، وليس فقط عادات قبيلة معينة. ومن بين هذه القيم قدسية الحياة البشرية. فالحياة البشرية مقدسة ولا يجوز انتهاكها، كما يقول القديسون ـ إلا عندما نقرر نحن القوميين اليهود أو المسيحيين أو المسلمين أو الهندوس أو البوذيين أن حماية جماعتنا أمر قابل للتضحية به.
ونتيجة لهذا، عندما اتخذ الانتقام الإسرائيلي ضد حماس شكل هجوم متواصل على سكان غزة بالكامل، كان رد فعلي- مثلي كمثل العديد من اليهود الآخرين- هو أنه بغض النظر عما إذا كان العنف يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية القانونية، فإنه ينتهك المبادئ اليهودية الأساسية، بدءا من المبدأ القائل بأن أي حياة، يهودية كانت أو غير يهودية، تستحق الموت أو تستحق الإنقاذ أكثر من أي حياة أخرى.
وقد تعزز الشعور بأن هناك انتهاكا صارخا للمعايير اليهودية، وليس ضعفها، عندما اتهم أولئك الذين حاولوا تبرير المذابح باختباء مقاتلي حماس بين المدنيين واستخدامهم ك “دروع بشرية”. فهل يُتوقع -لأن الجنود في بلد لا يتمتع بحماية طبيعية أو غطاء جوي أن يقاتلوا في العراء؟
في كل الأحوال، أين كتب أن قتل أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء مبرر من أجل معاقبة المذنبين المختبئين بينهم؟
الجواب: لم يكتب في أي مكان. ورغم أن المرء قد يبحث في التوراة عن أوجه تشابه تاريخية، أو في التلمود عن فرضيات حاخامية، فإن المبدأ الذي يصنف حياة واحدة من “حياتنا” على أنها تساوي عشرة أو مائة أو ألفا من “حياتهم” ليس مبدأ من مبادئ الدين التقليدي. بل إنه عقيدة نموذجية للدين العلماني المعروف باسم القومية.
ويتضح هذا عندما يستخدم المتحدثون المؤيدون لإسرائيل العنف الجماعي الذي شهدته الحرب العالمية الثانية لتبرير تجاوزاتهم العنيفة. “هل كنت تهتم بعدد المدنيين الذين قتلتهم عندما قصفت دريسدن أو هيروشيما؟”.
والسؤال يكشف الكثير. فنحن لا ينبغي لنا أن نهتم بهذه المذابح (على الرغم من أن العديد منا يهتمون بها)، لأن تعاليم القومية تنص على أنه “عندما تكون الأمة في خطر الهزيمة، فإن كل العنف اللازم للحفاظ عليها يكون مبررا”.
والمعادل الصهيوني لهذا هو هذا: “عندما يتعرض أمن إسرائيل للتهديد، فإن كل العنف اللازم للقضاء على هذا التهديد يكون مبررا”. بطبيعة الحال، لا يتم التعبير عن الأمور عادة بمثل هذه المصطلحات الصريحة. إن الدول التي تبرر العنف المتطرف دفاعا عن مصالحها الوطنية المزعومة، لا تفعل ذلك عادة باسمها فحسب، بل باسم الشعب الأمريكي أو الفرنسي أو الروسي، أو حتى باسم المبادئ المجردة التي يقال إنها تضفي الشرعية على ثقافتها السياسية، مثل الحرية والديمقراطية والمساواة .
وعلى نحو مماثل، تتحدث الحكومة الإسرائيلية بوصفها صوتا ليس فقط لمواطنيها، بل وأيضا لـ”الشعب اليهودي”، الذي يقال أنه مهدد في مختلف أنحاء العالم بسبب عودة معاداة السامية، وبوصفها ممثلا مرخصا له “للقيم اليهودية”.
ولكن ما هي القيم التي ينبغي أن يتبناها كل من يدافع عن هذه الحجة؟
ربما تأتي الإجابة مرتدية زيا يهوديا، ولكنها نفس القيمة التي يقدمها كل القوميين العرقيين: القيمة العليا المتمثلة في بقاء المجموعة.
ولابد وأن ننتبه بعناية إلى الطريقة التي تتطور بها هذه الحجة. فهي أشبه بمشاهدة محتال محترف في الشارع يلعب لعبة القواقع. أولا، يركز انتباهك بالكامل على حماس. فهو يعلن أن حماس لم تشن الهجمات الوحشية في السابع من تشرين الاول/أكتوبر/ فحسب، بل إن نفس المنظمة وأنصارها يريدون أيضا تدمير إسرائيل وقتل اليهود. كل اليهود في كل مكان. وينطبق نفس الشيء على حزب الله وإيران وأنصارهما.
وعلى هذا، فإن أي عنف مطلوب لإبادة حماس وردع حزب الله وإيران عن مهاجمة إسرائيل مبرر لضمان بقاء الدولة اليهودية والشعب اليهودي. وأي شخص يشكك في هذا الاستنتاج هو عدو يعرف أو لا يعرف لنفس الدولة والشعب، أي معاد للسامية. أي قوقعة على الطاولة تخفي العملة المعدنية؟
لا يهم أن حماس أو حزب الله أو إيران تقول أنها لا تريد أن تفعل هذا،
ولا يهم أن هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ على بشاعة ما حدث، لم يمثل بأي حال من الأحوال تهديدا وجوديا لإسرائيل أو ليهود العالم.
ولا يهم أن العنف الإبادي ضد سكان غزة يلحق ضررا أكبر بدعم إسرائيل الدولي وأمنها على المدى البعيد مما قد يأمل أي معاد للسامية في إلحاقه.
وإذا ركزنا على الأهوال التي تحيي الذكريات الحية والمخاوف من المحرقة وغيرها من الصدمات، فإننا نتغافل عن مبدأ علمني إياه العالم الإسرائيلي وناشط السلام إسرائيل شاحاك قبل سنوات: “لا يوجد حق في بقاء اليهود يمكن أن يبرر قمع الشعوب الأخرى”. إن بقاء المجموعة بأي ثمن هو عقيدة قومية، وليس عقيدة يهودية. وقد وصف البروفيسور إسرائيل شاحاك- الناجي من المحرقة والذي كان جنديا في جيش الدفاع الإسرائيلي في الأيام الأولى- الصهيونية الحديثة بأنها شكل خبيث من أشكال النرجسية العرقية. وأصر على أن الافتراض الأساسي لهذا النمط من التفكير هو دائما “حياتنا تساوي أكثر من حياتهم”. ولم يكن من المستغرب أن تكون هذه الرؤية قد ألهمت رابطة مكافحة التشهير لوصفه بمعاداة السامية. ولكنه لم يتعب قط من شرح حقيقة مفادها أن محاولة دمج القومية بالديانة اليهودية أفسدت الأخلاق اليهودية، وأصبحت في حد ذاتها مولدا لمعاداة السامية. وفي رأيه، لا يمكن لليهود في إسرائيل وفي مختلف أنحاء العالم أن ينعموا بالأمن الحقيقي إلا كجزء من حركة عالمية تعمل على إرساء الأمن الإنساني القائم على المساواة بين جميع الشعوب.
في الدعوة إلى هذا الاعتراف بإنسانية مشتركة تفوق القومية، انضم المنشق الإسرائيلي إلى قائمة من الكوزموبوليتانيين البارزين الذين تتراوح أعمارهم بين شخصيات معاصرة مثل نعوم تشومسكي وحكماء القرن التاسع عشر مثل صمويل كليمنس (مارك توين).
لقد أدرك مؤلف كتاب هكلبيري فين جيدا صلة الحرب آثار الإبادة الجماعية للعاطفة القومية . نظرا لأن كل عمل من أعمال “الدفاع عن النفس” العنيف من قبل دولة ما يتم تفسيره من قبل الدولة المستهدفة على أنه عمل عدواني يدعو إلى الانتقام. فإن منطق الصراع القومي هو في الأساس منطق العداوة العائلية.
في كتاب هكلبيري فين، يشرح صديق هك باك جرينجرفورد ما يعنيه هذا: يقول باك: حسنا “العداء هو هذا: يتشاجر رجل مع رجل آخر ويقتله. ثم يقتله شقيق ذلك الرجل الآخر. ثم يذهب الإخوة الآخرون من كلا الجانبين، إلى بعضهم البعض. ثم يشارك أبناء العم – وبمرور الوقت يُقتل الجميع، ولا يوجد المزيد من العداء.
لقد طرح مارك توين وجهة نظره، كما فعل في كثير من الأحيان، بأشد أنواع الفكاهة السوداء. ولكن كيف نتجنب عواقب الإبادة الجماعية المترتبة على الولاء العرقي القومي؟
أصر إسرائيل شاحاك على أن الترياق للقومية الصهيونية ليس القومية الفلسطينية، أو أي شكل آخر من أشكال التفوق العرقي الذي أعيدت تسميته بالتحرر المناهض للاستعمار. ولم يكن لديه أية أوهام حول أصل الصهيونية، التي كانت على الأقل منذ إعلان بلفور البريطاني (1917) جزءا من مشروع استعماري لإنشاء وطن يهودي كوكيل للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط. وعندما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا وفرنسا كسيد إمبراطوري في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، خلف الأمريكيون الهيمنة البريطانية على فلسطين. لكن إسرائيل شاحاك أدرك ــ تماما كما أدرك فرانز فانون ــ أنه بدون تغيير اجتماعي وسياسي جذري، سوف يتم دمج النخب القومية في نخبة عالمية، والدول المضطهدة في تحالف من المضطهدين.
وعلى هذا فإن الصهاينة حين يشتكون من أن حرمان اليهود من “حق تقرير المصير” يشكل معاداة للسامية، فإنهم محقون من ناحية، ومرتبكون إلى حد رهيب من ناحية أخرى. ففي عالم تسوده الدول القومية العنيفة المدمنة على السلطة، لماذا ينبغي حرمان اليهود من حقهم في أن يكونوا عنيفين ومدمنين على السلطة مثل القوميين المسيحيين أو المسلمين أو الهندوس؟ إن الارتباك يكمن في افتراض أن بناء وتسليح أمة من شأنه أن يحرر مجموعة عرقية أو دينية، ويضمن وجودها، ويسمح لها بالازدهار.
فمنذ قرون من الزمان، ساعدت القومية في تحرير الناس من هيمنة الإقطاعيين والسلطات الدينية التقليدية. واليوم تعمل القومية في الأساس كوسيلة لمنع الناس من التفكير والتصرف كأعضاء في الأسرة البشرية والطبقة العاملة العالمية.
ولمنع تكرار الحروب الإبادة الجماعية مثل الحرب في غزة، يتعين علينا أن نفعل أكثر من مجرد “قلب” العلاقات بين الظالمين والمظلومين.
بل يتعين علينا أن ننتقل من الشكل الطفولي للهوية السياسية الذي يسمى القومية إلى المواطنة العالمية والبلوغ الأخلاقي. ولن يحدث هذا إلا إذا استبدلنا النظام الذي يتلاعب فيه الأوليجاركيون الرأسماليون بالدول القومية لتعظيم أرباحهم وقوتهم بنظام يسيطر عليه العمال من جميع الأمم. وفي إشارة إلى أوليجاركية السكك الحديدية في عصره، كتب هنري ديفيد ثورو:
وأكن ماذا لو اندفع حشد من الناس إلى المستودع وصاح السائق “الجميع على متن القطار!”، فعندما يتلاشى الدخان ويتكثف البخار، فسوف يدرك أن القليل منهم يركبون القطار، لكن البقية يتعرضون للدهس- وسوف يطلق على ذلك، “حادث مأساوي””. وعندما ينقشع الدخان في غزة، فسوف يدرك المتبقين أن الأشخاص الوحيدين الذين لن “يتعرضوا للدهس ” هم أصحاب ومديرو المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وممكنوهم السياسيون. سوف يحسبون أموالهم، ويترشحون لإعادة انتخابهم، ويخططون للحرب القادمة. ولن يكون هذا مصادفة.
المصدر:
2024-07-04