يوم الحساب العربي!
مهدي مصطفى
فى التاسع من سبتمبر 2025، ارتجت الأرض في دولة قطر العربية، على وقع عدوان إسرائيلى غاشم، سموه “يوم الحساب”، كأنه جرس إنذار كونى يعيد فتح دفاتر التاريخ بأقسى العبارات.
الصواريخ هوت على المبانى والطرقات، فأصابت ضمير الأمة برمته، وأعادت إلى السطح كل ما دفنته العواصم تحت طبقات من الكلام عن السلام والازدهار والانفتاح، فإذا بالوهم يتبخر فى لحظة، وإذا بالذئب الذى تم إلباسه ثياب الجار المتمدن يكشف أنيابه من جديد.
لم تكن عملية عسكرية عابرة، إنما إعلان صريح عن جوهر المشروع الصهيوني، مشروع لا يعرف معنى التعايش، انبثق على الطرد والتهجير والاقتحام، منذ أن تم زرعه فى قلب المنطقة كشوكة حادة، تتغذى على الدعم الغربى بلا انقطاع، دعم يرى فى إسرائيل قاعدة متقدمة أوكلت إليها مهمة إعادة صياغة خرائط النظام الدولي، لتظل المنطقة فى حالة عجز دائم عن إنتاج مشروعها الخاص.
العدوان كشف عن أن إسرائيل تجاوزت مرحلة الدفاع عن حدود مرسومة، إلى كيان عابر للجغرافيا يمد يده إلى البعيد، كما إلى القريب، يضرب من دون خوف من الرد، ويترك ظله الثقيل معلقا فوق الرؤوس، تحت مظلة أمريكية تمنح العدوان شرعية، وتحوله إلى ضرورة إستراتيجية، فيما أوروبا تكتفى بترديد صدى الموقف الأمريكي، عاجزة عن صياغة سياسة مستقلة، أو تقديم بديل.
الرسالة الرمزية التى حملتها الصواريخ تقول إنه لا أحد فى مأمن من ظلال النار، ومن تصور أن الصمت يقيه الخطر كان كمن يدفن رأسه فى الرمال، فالقضية الفلسطينية، جوهر المحنة، شأن وجودى لكل كيان عربي، لأنها ترتبط بجوهر الأمن القومى المشترك الذى لا يقبل التجزئة، ورحم الله العظيم جمال حمدان، حين وصفها بجوهر مشروع التحرير العربي.
العدوان أزاح الستار عن معادلة ثلاثية متشابكة: أولها، أن أمريكا تدير المنطقة بمنطق التوتر المنضبط، تسمح للأزمات أن تستعر إلى الحد الذى يبقى الجميع فى قلق دائم، وتمنعها من الانفجار إلى درجة تهدد الهيمنة.
ثانيها، أن إسرائيل، ترتدى عباءة القوة الاستباقية، تخترع أعداء جددا لتبرر تفوقها، وتفرض إيقاعها على الجوار.
ثالثها، أن القوى الصاعدة، من الصين إلى روسيا والهند، تراقب هذا الانكشاف الأخلاقى للغرب، وتستثمر فيه لتطرح خطاب التعددية القطبية، وتشقق جدار الشرعية الدولية الحالية، وهى ظالمة وسوداء.
أمام هذه المرآة، يظهر العرب أكثر انكشافا من أى وقت مضى، واستمرار هشاشتهم الداخلية محنة سياسية وتاريخية، والاعتماد على حماية الآخرين وهم مكشوف، والمصالح الفردية المتفرقة جعلت كل عاصمة تتقوقع داخل حدودها، والفراغ الناتج تستغله إسرائيل لتجديد تفوقها وحيازة المبادرة المسمومة.
مع ذلك، فإن التاريخ يعلم أن الأزمات الكبرى ليست مقابر للشعوب دائما، قد تتحول إلى لحظات ميلاد جديدة، ففى اللحظة التى أرادتها إسرائيل يوم حساب عبرى، قد يجد العرب أنفسهم أمام فرصة ليجعلوه يوم حساب معكوس، إذا توفرت إرادة بناء قوة مشتركة، قادرة على حماية السيادة، وصناعة قوة مضادة فى وجه القوى الداعمة للهيمنة الإسرائيلية.
المشهد الراهن يشبه عاصفة كونية تعصف بالأغصان الضعيفة فتسقطها، فإذا لم تتشابك الجذور انكسرت، وإذا تماسكت تحولت الغابة إلى حصن منيع.
هنا يتحدد الخيار العربي: إما أن يظل موضوعا فى نص يكتبه الآخرون بأقلامهم وأهوائهم، وإما أن يجرؤ على كتابة النص بيديه، بعقل واعٍ، وإرادة صلبة، وصبر تاريخي، فالزمن، وإن بدا عدوا، قد يتحول إلى حليف، حين تمتلك الأمم القدرة على تحويل الألم إلى وعي، والصدمة إلى مشروع.
هذا الامتحان ليس عابرا ولا مؤقتا، إنه علامة فارقة فى مسار طويل من الانكسارات والخيبات، وقد يكون بوابة إلى مسار جديد.
السؤال يظل معلقا هل يبقى العرب أسرى الماضى يراوحون فى ظلال الهزيمة، أم يخرجون من صمتهم ليصوغوا حضورهم كقوة فاعلة فى النظام الدولي؟
تلك هى المعركة الحقيقية التى بدأت بصواريخ إسرائيل الوظيفية، غير أنها لن تحسم إلا بقرار ينبع من الداخل العربي، قرار لا يترجم ببيانات الشجب، ولا بمظاهر الدبلوماسية الباردة، إنما بوعى إستراتيجى يربط الأمن بالمصير، ويجعل من السيادة معنى لا يقبل المساومة.
2025-09-11