من غزة إلى فيينا… حين يتكلم التاريخ بغير لغته الرسمية!
خالد عطية
في مقاله الأخير، يكتب المفكر الفلسطيني عوض عبد الفتاح عن “المؤتمر الأول لمناهضة الصهيونية” الذي انعقد في العاصمة النمساوية فيينا منتصف يونيو 2025، بمبادرة من مثقفين ونشطاء يهود مناهضين للصهيونية، بمشاركة شخصيات فلسطينية وعربية بارزة. ويصف هذا الحدث بأنه لحظة تاريخية استثنائية، لا بوصفه فعالية تضامنية، بل كبداية لتشكل وعي كوني جديد، يتجاوز احتكار الصهيونية للذاكرة اليهودية، ويعيد فتح المسألة الفلسطينية من قلب الغرب، لا من هوامشه.
أهمية هذا المؤتمر لا تنبع فقط من رمزيته – كحدث مناهض للصهيونية يُعقد في مسقط رأس ثيودور هرتسل – بل من تركيبته الفكرية والسياسية التي لا ترى الصهيونية مجرد انحراف، بل بنية قمعية كولونيالية عابرة للحدود، تتقاطع مع أنظمة النيوليبرالية والعنصرية والإمبريالية، وتشكل تهديدًا مزدوجًا: على الفلسطيني كوجود، وعلى اليهودي كذاكرة أخلاقية.
ما شهده هذا المؤتمر – كما يعرضه عبد الفتاح – هو كسر فعلي لهيمنة سردية الصهيونية على العقل الغربي، وانبثاق لأصوات يهودية جديدة ترفض أن تكون شريكة في منظومة إبادة تُرتكب باسمها. هذا الحدث، بما حمله من رؤى ومداخلات، لا يمكن التعامل معه كتفصيل عابر، بل كإحدى اللحظات التأسيسية لما يمكن تسميته بداية تشقق الهيمنة من داخلها.
وفي هذا السياق، يتقاطع ما عبّر عنه عبد الفتاح، مع ما ندعو إليه في مشروعنا الفكري، نحن الذين نشتبك مع مفاهيم مثل “الواقعية السياسية”، “التمثيل الدولي”، “التفاوض”، و”التحالفات الأخلاقية”، لا من موقع الرفض العاطفي، بل من عمق التحليل البنيوي. إن ما حدث في فيينا لا يؤسس لتحالف ظرفي، بل لملامح مسار تحرري بديل يتجاوز البنية الكولونيالية لا يعيد التفاوض معها.
في زمن تُذبح فيه الحقيقة على مرأى العالم، لم يعد الصمت حيادًا، ولا التعاطف إنصافًا. في لحظة تاريخية نادرة، كسرت غزة حاجز الردع العسكري، بينما كسرت فيينا جدار الهيمنة المفاهيمية. وبين الانفجارين، يولد مسارٌ جديد لا يكتفي بإدانة المجزرة، بل يُفكك بنيتها، ويؤسس لبديل جذري لا يقوم على إعادة التفاوض مع القامع، بل على خلخلة شروط وجوده.
لطالما استثمرت الصهيونية في رواية الإبادة، لا لشفاء الذاكرة بل لشرعنة الاحتلال. ورغم محاولات الصوت الفلسطيني فضح هذا التوظيف، فإن الهيمنة المعرفية الغربية كانت تضعف كل صوت خارج “السردية المعتمدة”. إلا أن المفارقة التاريخية الكبرى، أن تأتي لحظة الانكشاف من داخل الجدار نفسه. أن يقوم يهود، من أبناء وأحفاد الناجين، بكسر احتكار الصهيونية للذاكرة، وبفضح المشروع لا باسم الوطنية فحسب، بل باسم القيم الأخلاقية والكرامة التاريخية لليهود أنفسهم.
وهذا لا يعني أننا نشهد تحولًا داخل إسرائيل، بل العكس تمامًا: الصمت والتواطؤ داخل الكيان يقابله انبعاث صوت يهودي عالمي ينزع عن الصهيونية قدسيتها، ويضعها في مكانها الحقيقي: مشروع استعماري عنصري تأسس على الدم والوظيفة. وهنا، يتلاقى هذا الموقف مع ما نطرحه نحن في اشتباكنا الفكري، حين نرفض تبرئة أي سردية – مهما ادّعت الإنسانية – من بنيتها الوظيفية. فالسؤال ليس: من يروي؟ بل كيف ولماذا؟ ما يُطرح في فيينا هو بداية قطيعة مع سطوة السردية الصهيونية، ونزع للشرعية عن هالة “الحق التاريخي” التي لطالما غلّفت الاحتلال.
ما فعله مؤتمر فيينا أيضًا هو فضح البنية الأخلاقية للعالم الغربي، لا عبر مقاربة أخلاقية مسطّحة، بل من خلال قلب المعادلة: لم يعد مناهض الصهيونية متهمًا، بل أصبح هو حامل راية الكرامة العالمية. ولعل هذا ما ندعو إليه مرارًا: نزع سلاح الشرعية الأخلاقية عن الكيان ومنظومته، وفضح التواطؤ الغربي بوصفه امتدادًا للاستعمار، لا انحيازًا عابرًا.
حين يتشكّل تحالف يهودي–أوروبي–عالمي، لا ينطلق من عقدة الذنب، بل من مسؤولية إنسانية واعية، فهذا يعني أن مركز الثقل الأخلاقي بدأ يتحول. لم يعد على الفلسطيني أن يُثبت إنسانيته، بل على الصهيوني أن يُبرر نفيه المستمر للآخر.
وأحد أخطر ما واجه القضية الفلسطينية تاريخيًا هو التمثيل المسموم: أن يُقال ما لا يُعاش، وأن تُدار معارك الفلسطينيين على طاولات تفاوض نُزع عنها التاريخ والسياق. من هنا نفهم التحذير الذي طرحه البعض من خطر “احتواء” صوت الفلسطيني في ساحات مثل فيينا. لكن الردّ لا يجب أن يكون بالانكفاء أو الغيرة الرمزية، بل بطرح تمثيل بديل، لا يستجدي المنابر، بل يبني مشروعًا تحرريًا جذريًا يتقاطع مع كل من ينزع شرعية المنظومة من جذورها، لا من أعراضها.
ما ندعو إليه ليس فقط تفكيك اللغة التي شرعنت التفاوض، بل إعادة بناء معجم جديد، تكون فيه الذاكرة الفلسطينية هي المصدر، لا الملحق. الفلسطيني لا يحتاج إلى من يمنحه صوتًا، بل إلى بنية سياسية وفكرية تحمي صوته من التآكل، وتحرره من أسر الوظيفة.
ما حدث في فيينا ليس إعلان تضامن، بل إرهاص ببداية ملامح الجبهة القادمة. لا تقوم على الهوية، بل على الرؤية. لا تستمد مشروعيتها من نسبها، بل من شجاعة مساءلتها. وهنا تبدأ المعضلة الحقيقية: هل نحن مستعدون – كفلسطينيين – أن نُعيد تخيّل مشروعنا خارج خطاب الدولة–التمثيل–المفاوضات؟ هل نملك الجرأة لنفكّك ما تبقى من أدوات الهيمنة داخلنا، قبل أن نطلب من العالم أن يفكك صمته؟
إن مؤتمر فيينا، بما حمله من طاقات متعددة: يهودية، فلسطينية، عربية، وأوروبية، ليس لحظة رمزية، بل مؤشر إلى إمكانية الانتقال من “الوطني المحاصر” إلى “التحرري المفتوح”. وهذا لا يعني تفكيك المشروع الفلسطيني، بل إعادة صياغته ضمن أفق أوسع: لا يكتفي باسترداد الأرض، بل يستعيد المعنى الكلي للعدالة في مواجهة منظومة القمع العالمية: من النيوليبرالية إلى العنصرية، من الصهيونية إلى الإمبريالية.
من غزة إلى فيينا، ومن رفح إلى برلين، يتشكل محور جديد لا يقوم على اصطفافات تقليدية، بل على تفكيك جذري للهياكل. ليس المطلوب ائتلافًا للنيات، بل جبهة للمعرفة، ومسارًا يتقاطع فيه التاريخ مع الأخلاق، لا مع التواطؤ. لا تكفي الكلمات، لكن اللغة حين تُكتب من تحت الركام، تصبح أقوى من البندقية. وما نراه اليوم ليس خلاصًا، بل بداية وعي جديد… لا تكتبه الدولة، بل الضحية حين تستعيد لغتها.
في زمن تبدو فيه الإبادة مكرّسة والعدالة مؤجلة، وفي ظل نكوص نخبوي وخذلان دولي، تولد أحيانًا من رحم العتمة إشارات ضوء، لا تُنقذ وحدها، لكنها تُذكّر بأن الإمكانية لم تُلغَ بعد. فيينا ليست الحل، لكنها جملة جديدة في معجم العالم الذي يتشكل. وغزة ليست الضحية، بل قلب الزلزال الأخلاقي الذي أعاد تعريف الممكن. وما بين الطفلة في رفح والمفكر في برلين، بين اللاجئ في النيرب والناشط في نيويورك، تتشكل ملامح الجبهة: لا كتحالف نوايا، بل كمشروع تفكيك وبناء… وحقّ في الحياة غير مشروط.
2025-07-101
