لموا الكراريس…!
مهدى مصطفى
بلغت الحلقوم.
انكشفت الأوراق على طاولة القمار الدموي، أوروبا التى رسمت خرائط المنطقة منذ سايكس بيكو أدركت أنها أطلقت المارد من القمقم، والمارد يزعم اتصالا بالسماء، ويعلن إمبراطورية عابرة للحدود.
بريطانيا فاجأت الجميع بالاعتراف بدولة فلسطين فى محاولة لفرملة الجنون، ثم تبعتها فرنسا مستعينة بصوت شاعر فلسطين الأكبر محمود درويش، حين استعاره الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون من الخلود، لما قال درويش مرة: إنه «الشعب الذى لا يقول وداعا لأى شىء» وكانت لحظة فارقة، جعلت من الشعر صوتا أعلى من المدافع.
الحقيقة عارية، القوى الكبرى تحركت حين أدركت أن «المسألة اليهودية» التى صنعتها خرجت عن السيطرة، وأن المشروع الذى أرادوه حاجزا ضد العرب تحول إلى وحش، يهدد بابتلاع أوروبا نفسها.
نتذكر موسى هيس، الفيلسوف الاشتراكى الألماني، الذى انحاز أولا إلى ماركس، ثم انقلب عليه، وكتب «روما والقدس» كأحد النصوص المؤسسة للفكرة الصهيونية، رؤية استبدلت الخلاص الدينى بقومية يهودية سياسية، واقترحت عودة اليهود إلى فلسطين كحقيقة سياسية، لا كحلم لاهوتي، فوجدت أصداء لدى نخب أوروبية، رأت فيها حلا لمعضلة اليهود فى شوارعها.
بعد عقود جاء تيودور هرتزل، الصحافى النمساوى – المجرى المغامر الذى لم يؤمن بالدين، فحول أطروحة هيس الفلسفية إلى برنامج سياسى محدد فى كتابه “الدولة اليهودية”، داعيا إلى مؤتمر يجمع زعماء اليهود ويوجههم نحو إقامة وطن قومي.
انتقلت الفكرة من حبر الفلاسفة إلى طاولة الدبلوماسيين، واتخذها البعض أداة وظيفية للتخلص من اليهود، وتصديرهم إلى الشرق.
لم يتخيل هيس ولا هرتزل أن البذرة ستنمو فى تربة ملتهبة، تنمو مشروعا مسلحا، نوويا وإعلاميا ونفسيا، يمتلك أدوات رعب ويتلاعب بخيوط السماء المزعومة.
هيس كتب أن الأمة التى تفقد أرضها تفقد روحها، وكأن ذلك يبرر انتزاع أرض غيره ليمنحها لليهود.
واليوم، تتكرر المأساة على نطاق أوسع، تحاول إسرائيل ابتلاع أرواح شعوب كاملة، عبر محو ذاكرتها وسلب تاريخها، بينما ظنت أوروبا أنها تخلصت من صداعها القديم بترحيل اليهود إلى فلسطين، فوجدت بعد قرن ونصف القرن أنها صنعت وحشا يستنزفها، ويبتزها، ويهدد قلبها، فالمسألة التى أرادها هيس حلا قوميا صارت مسألة عالمية، تفرض شروطها على العواصم الكبرى، وتعيد صياغة خرائط القوة.
علينا أن نفهم هذا جيدا، فلا مصيرنا مرهونا بالتحالفات وحدها، وهى عابرة ومؤقتة، وقد تتداعى ساعة الحرب الحقيقية، ولا نقلل من خيال القتلة وأدواتهم غير المرئية، إنما نمتلك أدوات تضاهيها، قبل أن يفرض علينا مصير لا رجعة فيه.
منذ السابع من أكتوبر 2023 تغيرت قواعد اللعبة، جربت على الجسد الفلسطينى أسلحة وأساليب ستعيد تشكيل وجه العالم، لم تعد هناك محرمات ولا خطوط حمراء، فالمعركة صارت مختبرا لحرب كونية جديدة.
سلام القوة، النصر عن بعد، السيطرة على الأرض والسماء، والإرهاب النفسي، كلها أسماء لجنون شيطانى واحد، وما لم نكن نواة صلبة، تنبثق من داخلنا، لا من عطايا الآخرين، سنظل ميدان رماية مفتوحا، نصدق الخرافة، بينما الحقيقة عارية.
بلغت الحلقوم..
أوروبا تستشرف الخطر، وتعيد قراءة الشفرات، ونحن أولى بالاستشراف، وبقتل الخوف والرهبة، واستعادة زمن القوة الحقيقية، ذلك الزمن الذى غير وجه الدنيا إلى الأبد، ثم نزعت أنيابه قرونا طويلة، حتى صار زمنا رخوا، فنبتت من بين أبنائه طحالب سامة من جماعات وتنظيمات وظيفية، تقاتل اليوم بالنيابة عن الآخرين، وقد انكشفوا فى ما سمى الربيع العربي، وما زالوا يتحركون بيننا، ظنا بأننا نرتجف ونخشى!
الآن، حانت لحظة الوعى الحاد، لحظة لا يكفى فيها الغضب، ولا تجدى فيها الشعارات، إنما تستوجب بناء مشروع ذاتى يوازى التحدي، مشروع يؤمن بالمعرفة، ويؤمن بالقوة، يربط الذاكرة بالمستقبل، ويجعل من الدم الفلسطينى ولادة جديدة، لا نحيبا أبديا على أطلال الخراب.
2025-09-25