عيون مفتوحة على اتساعها!
مهدي مصطفى
ثلاثون شهرا تكفى، هكذا اتخذت الهوية المصرية العميقة قرارها بصمت، وثبات الجبل، ووضوح العارف.
ثلاثون شهرا من الاغتراب، من اختطاف المجال العام، من تزييف وعى الناس، كان هذا أقصى ما تتحمله أمة تشربت الزمن منذ آلاف السنين.
قالت: دعهم يرقصون على إيقاع نشوة مزيفة، دعهم يهللون لمعادلات غريبة على الجغرافيا والتاريخ، لكنها كانت تراقب، وتسجل، وتنتظر.
من يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013، ثلاثون شهرا بدت كقرون طويلة، كأنها تجربة كونية ضاغطة، ومعمل لاختبار طبقات الأمة، صدمة مقصودة لتفكيك الوعي، وسرقة الذاكرة الجمعية.
والنيل لا ينسى، قالها محمود درويش ذات مرة، فإن النيل يتذكر، يتنهد، يتحرك، يفيض، يغرق الشواطئ، ويبعث الطمى فى العروق.
لم ينس النيل هذه المرة، فاض على عقوق باراك أوباما ومردته، اخترق حدود الإدراك البارد فى غرف القرار الغربي، زلزل غرف العمليات التى أسسوها فى الظل، حيث كان القرار الدولى يطهى على نار سوداء.
اثنتا عشرة سنة مرت على لحظة الاستعادة، لكن النار لم تخمد، حواف الإقليم تشتعل، لا لأن الأعداء تقدموا، بل لأن الخرافة تمزق جلد الحضارة، وصراع الحلفاء على الميراث يشتد، ويشتبك فوق أنقاض الخرائط، وعلى جثث المدن، التى راحت تدفن تحت ركام المذهبيات.
لولا اندفاع التاريخ السرى للمصريين للرد على الاختطاف النادر لهويتهم، لكنا اليوم فى قلب الاشتعال الذى لا يشبه أى معركة فى التاريخ.
كان يمكن أن تسقط المنطقة بالكامل، أن تختزل الذاكرة فى مشهد خيمة، أو شاشة، أو منصة على الهواء.
مصر – فى تلك اللحظة – تراجعت خطوة، ثم استدارت بكامل جسدها الثقيل، وقالت: “كفى”.
تشتعل النيران الآن من حولها، لكنها ستخبو، ليس لأن النار تنطفئ وحدها، بل لأن الأرض ستطرد الدنس.
القيامة المؤقتة ستنتهي، والأفكار القاتلة ستكشف، والذئاب التى لبست جلود الحملان ستعرى.
ستنكشف مسرحة الأحداث، ويظهر من جديد، أن المصريين نحتوا هويتهم من صخر، لا من رمال متحركة.
فى تلك اللحظة البائسة، كان الخيال الغربى يقترب من الجنون، لقد أغلقوا أعينهم، وقفزوا فى بحر التاريخ المصري، المتسع، العميق، المتراكم، تجرأوا على بحيرة الأسرار الاجتماعية والرمزية.
قفزوا إلى مجتمع مركب، متداخل، لا يحكم من الخارج، له هوية سرية، لا تفك شفراتها إلا المعايشة الطويلة، لا تقرأ فى مراكز الأبحاث، ولا تترجم عبر الفضائيات.
لكل رئيس أمريكى حربه الخاصة، وكانت “يناير” حرب باراك أوباما، تدور على جبهات متعددة، بجنرالات من اليمين واليسار، بخلايا من حلف الناتو، وبمؤسسات تمول القتل باسم الدين، وتتخيل طرقا زائفة إلى القدس.
استثمروا أربعين عاما فى تكوين الخلايا، وتجنيد البائسين، وتعليمهم دروس الخيانة فى قلب مراكز الأبحاث السرية، وفى تدبير الانقلابات الرمزية، وفى مسح الذاكرة واستبدال المفاهيم.
لقد نزعوا عن التنظيمات المسلحة أى انتماء وطني، وأعادوا تشكيلها لتكون أدوات ناعمة فى مشروع إمبراطورى قادم من خلف البحار.
فى لحظة خاطفة، خرج الناس، حاملين سبعة آلاف عام على أكتافهم، من الأزقة الضيقة، من الدروب الطويلة، من الحارات المغلقة على أنفسها، من الأطراف ومن القلب، تقدموا إلى المشهد، لا طلبا للبطولة، بل لأن الحياة نفسها صارت على المحك.
كانوا يعرفون أن الذاكرة لا تورث، بل تنتزع فى لحظة صدق حاسمة.
“عيونهم مفتوحة على اتساعها”، لا تنام، لا تغفل، لا تتنازل، مع الاعتذار للمخرج والمصور الأمريكى العبقرى ستانلى كوبريك، وفيلمه النادر “عيون مغلقة على اتساعها”
2025-06-27