صراع إلى يوم القيامة!
مهدى مصطفى
الحداثة، التنوير، فصل الدين عن الدولة، تفتيت الذرة، الذكاء الاصطناعى، الثورات الحقيقية، والمزيفة، والملونة، الحروب التى أودت بالملايين، سن القوانين، مؤسسات الشرعية الدولية، كل هذا لم يفلح فى كسر قشرة الخرافة فى فلسطين.
فى زيارة مفاجئة لمستوطنة «أريئيل» فى قلب الضفة الغربية المحتلة، صرح مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكى، بأن «جبال يهوذا والسامرة هى الخطوط الأمامية للدولة «اليهودية»، ويجب أن تبقى جزءا لا يتجزأ منها»، مؤكدا دعمه الكامل للمشروع الاستيطانى، ومضيفا: «كل زاوية فى هذه الأرض مهمة لنا، ونحن نقف معكم تماما، حتى لو رأى العالم خلاف ذلك».
بهذا التصريح، لم يعد الأمر مجرد موقف سياسى، إنما تأكيد على تحول المؤسسة الأمريكية التشريعية إلى شريك عقائدى وسيادى، فى المشروع الإسرائيلى فى فلسطين، وليس مجرد داعم خارجى.
المفترض أن يكون هذا الصراع أرضيا لا سماويا، صراعا على الأرض والموارد والسلطة، وحين يغطى بالقداسة يتحول إلى صراع أبدى.
بدلا من أن يقدم المشروع الاستيطانى على حقيقته: احتلال واستعمار واستيطان أوروبى الهوى، جرى تحويله إلى وعد غيبى و «أرض موعودة»، وهذا ما يطيل أمد الصراع، ويجعله كخيوط العنكبوت، يستثمر فيها كل المغامرين غربا وشرقا.
المفارقة أن الطرف الفلسطينى، ثم العربى، ثم الإسلامى، انجذب أيضا إلى هذا التأويل القدسى للصراع، فرأى فى تحرير فلسطين واجبا دينيا مقدسا، وليس مشروعا تحرريا بشريا قابلا للتخطيط والإنجاز، وهكذا وضعوا العربة أمام الحصان، وتحولت فلسطين إلى بيضة تفقس حروبًا لا تنتهى، تستثمر فى تدمير دول الإقليم العربى.
مرة بإغراء «تحديث المنطقة» بعد نهاية الصراع، ومرة بتهديدها بالتدمير الكامل إن عرقلت المخطط الأشمل لشراء الشرق الأوسط، كموقع إستراتيجى، لا كمستعمرة تقليدية كما فى السابق، وبعض العرب يتبنون هذه الخرافة، ويسوقون لها، من على منصات تبدو «إعلامية».
فى التسعينيات، نشر شمعون بيريز كتابه «الشرق الأوسط الجديد» (1993)، وفيه رسم ملامح شراكة اقتصادية كبرى تقودها إسرائيل بتمويل عربي!
جاء بنيامين نتنياهو بعده ليخلع قناع بيريز الناعم، ويعلنها بوضوح: نحن نغير الشرق الأوسط بالكامل وللأبد، بل ذهب أبعد من ذلك فى طموحاته العالمية.
الغرب الذى أنتج مفاهيم الحداثة والإنسانية، هو نفسه الذى صاغ «المسألة اليهودية»، ومارس التمييز والاضطهاد والمحرقة، ثم تحول إلى راع عسكرى لمشروع إسرائيلى مسلح.
وهو أيضا من أنشأ تنظيمات وجماعات تبدو من طينتنا وتتكلم بلساننا، لكنها فى الحقيقة والجوهر تخدم بنيته ومصالحه، واستطاع من خلالها أن يحول الحرب إلى عقيدة، والخراب إلى سياسة.
منذ نكبة 1948 حتى اليوم، وقعت مئات الحروب على أطراف الإقليم العربى وفى قلبه، واندلعت ثورات ملونة، كلها تصب فى مشروع “تفكيك منظم” لعالم ما بعد سايكس بيكو.
أما رئيس مجلس النواب الأمريكى، الممثل لأقوى دولة فى العالم، فبدلا من أن يكون راعيا للسلم والأمن الدوليين، ألقى بثقله كله فى سلة الاحتلال، مؤكدا من قلب مستوطنة غير شرعية، أنه لا مجال لأى حل خارج الرؤية التوراتية الجديدة.
بهذا، لا يشارك فى تأجيج الصراع فحسب، بل يضفى عليه مشروعية ميتافيزيقية، ويحوله إلى “صراعٍ إلى يوم القيامة”.
2025-08-07
