حين يصبح الضبع ثائرا!
مهدى مصطفى
فى عصر عبثى كهذا، لن يجد مؤرخ المستقبل متسعا للعقل، سيحتاج إلى عدسة سريالية على طريقة الكاتب الإيرلندى العبثى صمويل بيكيت، وربما لا يجد عنوانا أدق من: «حين يصبح الضبع ثائرا».
نعيش زمنا تخطط فيه الثورات من غرف معزولة، ويدبر فيه الخراب على أيدى أناس يشبهوننا فى السحنة واللغة والدين، لكنهم يلهجون بمحاسن أعدائنا، ينشرون رواياتهم كحقائق، ويقاتلون تحت راياتهم.
وحين تبدو السفينة مشرفة على الغرق، يقفزون كجرذان محترفة، لا يهربون فحسب، بل يدفعون المركب نحو القاع.
الضبع، هنا، ليس حيوانًا، بل كائن بشرى ممول، يتقن فنون القتل باسم الإله، ويصلى فى محراب الناتو، كما لو أنه معبد مقدس، يتحدث باسم الضحية، لكنه يحرص على بقاء الجلاد.
سيسأل مؤرخ المستقبل:
هل حقا مر زمن كهذا؟
سيعود إلى إرنست هيمنجواى، الكاتب الأمريكى الذى صور الضبع فى كتابه «تحت التلال الخضراء» كرمز مركب للانحطاط، لم يكن يصف الضباع بوصفها حيوانات فحسب، بل ككائنات رمزية تعيش على حافة المأساة، وتتغذى على الجثث، وتظهر فقط بعد أن ينهك الموت الفريسة.
كتب هيمنجواى عن الضبع: «لا يقاتل من أجل طعامه، بل ينتظر حتى تنهار الفريسة، ثم يزحف كأنه ظل، ينهش ويلوث كل شىء».
فى رحلته إلى شرق إفريقيا، لاحظ هيمنجواى جبن الضبع، خبث عينيه، وضحكته التى شبهها بأنين طفل ميت، لم ير فيه مجرد حيوان، إنما استعارة حية للجبن، للنهم، للشر الذى لا يملك شجاعة القتال.
وهكذا، نرى اليوم الضباع البشرية تملأ العواصم العربية: فى دمشق، والخرطوم، وبيروت، وطرابلس، وصنعاء، وبغداد. يسيرون بيننا، يهتفون بشعارات ظاهرها طاهر، وباطنها جحيم، يكتبون فى الصحف، ينامون على أسرة من الدولارات، ويبيعون الضحايا فى مؤتمرات نظيفة الإضاءة.
هم لا يقاتلون، بل يأتون بعد أن يجهز الأسود على الفريسة، لا يدفعون ثمنا، لكنهم يظهرون وقت الرماد، يجمعون الفتات، ويصنعون مجدا شخصيا من دماء غيرهم، ضحكتهم ليست فرحا بل شماتة، واحتفالهم بالنصر محض تمثيل فوق جثث القيم.
هيمنجواى كان يقدس «الحيوانات النبيلة»، لا لأنها جميلة أو قوية، بل لأنها تقاتل، تصبر، وتعرف كيف تموت واقفة، عنده، النبل لا يتعلق بالقوة بل بالشرف فى الفعل والموت، هكذا وصف الحصان، والأسد، والغزال، بالكبرياء، والتضحية، والكرامة.
أما «الضبع»، فكان عنده مجازا لانحطاط الإنسانية، رمزا لمن يعيش فى الظلال، لا يؤتمن على الحزن، ولا على البطولة، إنه لا يبكى، لا يحب، لا يخاف، لا يواجه، فقط يراقب، يتغذى، ويضحك، ولذلك، فالضبع الثائر ليس ثائرا، بل منتحل، طفيلى، سارق دم.
وربما، لو عاش هيمنجواى فى زمننا، لقال عن الإنسان الضبع: ذاك الذى يبنى شهرته على المآسى، ويتسلل بعد كل معركة لينهب ما تبقى من الولاء والتعب، من يبيع كل شىء لأن لا شيء يعنى له شيئا.
الضبع البشرى لا يحتاج إلى أن يقاتل، يكفيه أن يشتم رائحة الموت، ثم يأتى زاحفا ليتغذى على بقايا الكرامة، هو ليس مجرد كائن دنىء، إنما عدو لكل ما هو نبيل.
وفى النهاية، حين يضحك الضبع، لا يكون هذا ضحكا… بل إعلان نهاية كل شىء.
لكن هذه الضباع مكشوفة، وعلى قلة الأسود والذئاب النبيلة، فإن كنز الثورات الملونة سينفد، ولحظتها نستعيد ما كتبه هيمنجواى كسجل تاريخى موثق، فثمة محاكمة فاصلة، سيجد الضبع نفسه فيها خارج التاريخ والجغرافيا والزمن، فثمة أسود لا تزال فى الحديقة.
2025-07-24
