سياق هذه المقالة هو الحديث الذي أدلى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام حول حرية التعبير، وانتقاده الإساءة إلى رسول الإسلام الأعظم، وقوله صراحة أن مثل تلك الإساءة لا تدخل تحت باب الحرية.
الإساءة إلى الرسول الأكرم .. ثقافة أم سياسة؟
لن نتطرق إلى شارل إيبدو وفرنسا لأن فرنسا متعفنة ليس فقط بكونها دولة استعمارية ومصاصة دماء الشعوب، بل وبثقافتها المتعالية، وعلمانيتها الجوفاء. وبالمناسبة فإن الإساءة إلى الرسول الأكرم ليست ظاهرة جديدة في فرنسا، فقد وقعت إساءة مماثلة على أيدي مسرحيين فرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر أثناء حكم السلطان العثماني عبدالحميد الثاني الذي استطاع عن طريق الضغط على الحكومة الفرنسية إيقاف تلك الإساءة. فرنسا مدمنة على السفاهة. وحتى قديما، وقبل تدمير حكم العرب في الأندلس سادت في شمال إسبانيا، وقطعا بتحريض من القبائل الفرنسية، موجة من الإساءات إلى الرسول الأكرم. إننا نسجل في كل هذه الحالات علاقة وثيقة بين الإساءة إلى رسول الإسلام والظروف السياسية، ودائما انطلاقا من فرنسا.
نبقى في الدنمارك التي فاجأت العالم في بداية هذه الألفية بالتحول من دولة مسالمة حريصة على السلم في العالم، وعلى حقوق الإنسان، إلى دولة تشارك في العدوان على بلد آخر، ثم تبادر دون سابق إنذار بالاقتداء بالفرنسيين فيما جرى اعتبارها أيضا حربا على الإسلام بذريعة حرية التعبير.
إن حرية التعبير واحدة من القيم المقدسة في الثقافة الدنماركية، انتزعها الشعب بكفاحه العنيد والطويل، وكان في الأصل يتعلق بحقه في التعبير السياسي ونقد السلطات والمتنفذين، ثم توسعت لتشمل حق الإنسان في التعبير عن آرائه سواء في العائلة، أو مكان العمل، أو في العلاقات الاجتماعية الواسعة، أو في الفن. لذلك نجد أن النخبة المثقفة هنا تردد دائما أن المواطن من حقه أن يكون له موقف (holdning) فيقول ما يشاء مهما كان جنونيا، شريطة ألا يتحول الموقف إلى فعل (handling) مرفوض، وإلا فإن القانون سيتدخل. قل، مثلا، إن الدولة الدنماركية لم تعد دولة ديمقراطية يحكمها القانون، بل أصبحت دولة بوليسية قمعية. لن يعتقلك أحد. وقل إننا بحاجة إلى تغيير الملكية إلى نظام جمهوري. لا أحد يعتبرك متآمرا على الدولة. وقل إن الإسلام هو دين يضطهد النساء. لا أحد من حقه أن يُسكتك. وقل عن رئيس الوزراء، وهو في الحكم، أنه كذاب. لن يرسل الرجل حراسه الشخصيين ليشبعوك ضربا. لكن حذار أن تقدم على عمل غير قانوني على خلفية أنك تعتبر الدولة قمعية؛ وحذار أن تتجاوز البرلمان في البت بمصير الحكم والعائلة الحاكمة؛ وحذار من الإقدام على تشكيل جماعة لإلحاق الأذى بالمسلمين، وحذار أن تدعو إلى أي فعل ضد رئيس الوزراء الكذاب خارج إطار القانون.
ولهذا فإن أي شخص، سواء أكان سياسيا، أو سلطة دينية، أو أي شيء آخر لن يكون، مبدئيا، مصونا من حرية التعبير، ولا فوق القانون، فأحد ابني الملكة تعرض وما يزال يتعرض للسخرية لأنه أخطأ ذات يوم وقاد سيارته بسرعة أعلى من المسموح بها. ووزيرة الأجانب والهجرة كانت معروفة بمواقفها وآرائها المعادية للأجانب، وذلك مقبول شريطة ألا يؤثر على القيام بعملها ضمن إطار القانون. ولهذا وبمجرد أن تحول موقفها من الأجانب إلى فعل غير قانوني أدينت وحكم عليها بالحبس لشهرين مع التنفيذ لأنها عزلت بشكل غير قانوني بين زوجين سوريين طالبين للجوء. ثم لفظها البرلمان من عضويته، ليس لأن البرلمان يحب الأجانب، بل لأن البرلمان لا يمكن أن يكون قليل الاحترام للنظام القضائي فيضم بين جنباته شخصا أدانه النظام القضائي. هناك وشائج وثيقة بين مختلف القطاعات في هذا المجتمع في إطار الثقافة التي يحرسها عشرات الآلاف من المثقفين، ورجال الفكر، والقضاء، والفلسفة، وحتى العلوم.
هل كانت الرسوم التافهة مجرد موقف؟
كيف نفهم على ضوء كل هذا تجاوز رسام دنماركي على رسول الإسلام، بل إنه هو من دشن موجة الإساءات إلى الرسول الأعظم عام 2005؟ من وجهة نظرنا الشخصية فإن الرجل عاش كل حياته وهو رسام مغمور، فأراد أن يظهر ويُرى بالتعلق بغصن من شجرة محمد الباسقة. وربما كان يعاني من الخرف، فقد أتى بطفرة في ممارسة قيم الثقافة الدنماركية التي مع تقديسها لحرية التعبير لا تستسيغ احتقار الأقليات والازدراء بها. لكن في سياق حرية التعبير، فإساءة الرسام إلى الرسول الأكرم كانت أصلا في نطاق الموقف، وكان مقيتا حقا. الرسام لم يقم بتهديد أحد، ولم يقم بتشكيل جماعة إرهابية لاضطهاد المسلمين!
الخلاف يبدأ عندما يعتبر بعضنا الرسوم نفسها فعلا، وليس مجرد موقف! وهذا أمر جدير بالنقاش. بالتأكيد، حين قام الرسام الدنماركي الخرف بإنتاج رسومه الكاريكاتورية عن الرسول الأعظم، فإننا نصدق أنه لم يكن بإمكان أي سياسي دنماركي أن “يمنع” الرجل من القيام بذلك، وإلا فإن ذلك السياسي كان سيضع نفسه على طرفي نقيض مع الثقافة الدنماركية التي تعاني من حساسية مفرطة تجاه عبارة “ممنوع”، فليس هنا شيء ممنوع حتى تتوفر لذلك أغلبية برلمانية، فحتى الحزب النازي الممنوع في ألمانيا، مرخص له في الدنمارك.
الرسام مارس، إذن، حقا ثقافيا يضمنه له الدستور. لكن الأمر ليس بهذه البراءة والسذاجة. نعم، هناك حرية تعبير، ونحن لا نعرف ما يدور في أي مجتمع من أشكال التعبير عن أي شيء، سواء على شكل نصوص مكتوبة، أو رسوم، أو منحوتات، أو نكات ساخرة. هناك حتى في المجتمعات الشرقية من يسخرون، ويتجاوزون، ويسيئون، ويمرغون أكبر الرموز في الأوحال. لكن هناك فارق، فهذه كلها تبقى في إطار تجمعات صغيرة، وغير معلنة على المجتمع. إن الإساءة تصبح رسمية عندما تظهر إلى العلن، خاصة منشورة على وسائل الإعلام. وهنا فإن الحد الفاصل هو ما إذا كانت وسائل الإعلام مستعدة لنشر الإساءة. والإعلام في البلدان الغربية حر. وعلى عكس السياسيين الذين لا يمكنهم منع شيء إلا بتوفر أغلبية في البرلمان تمرر المنع، فإن الإعلام يمكنه بكل سهولة الامتناع عن النشر. إن الصحف، والمطابع، تهمل يوميا الكثير من النتاجات الفكرية، والفنية، فيبتلعها النسيان. ولا أحد يحاسب الإعلام على ذلك. أن تنشر أو لا تنشر أمر يعود إلى التقدير الشخصي لرئيس المحررين في أية صحيفة أو مطبعة. وهنا، فإن الإساءة إلى رسول الإسلام، وبمجرد الموافقة على نشرها، انتقلت من مجرد موقف إلى فعل استفزازي. وهذا يشمل أيضا ترهات سلمان رشدي في بريطانيا.
النظام السياسي الدنماركي عاجز فعلا عن منع ما لا يمنعه الدستور، لكننا نعرف أن مبادرة الرسام الدنماركي لم تأت من مجرد عشق حرية التعبير وبعيدا عن السياسة، بل جاءت في سياق سياسي عالمي، هو الدعوة إلى الحملة الصليبية التي دشنها الرئيس الأمريكي المتخلف عقليا جورج بوش ضد المسلمين عام 2001، فبدأ تجييش المرتزقة، وتعبئة المرضى العقليين، وحشد الجهود الإعلامية المغرضة لدعم تلك الحملة.
حرية التعبير قيمة ثقافية دنماركية عليا
أما استفزاز الآخرين، شأنه شأن التنمر على الآخرين، فيعتبر في هذه الثقافة مرضا يحال المصاب به إلى المعالجين النفسانيين. ونحن إذ نقف إجلالا لأجيال من الدنماركيين الذي كافحوا لينال الشعب مختلف الحريات، ومنها حرية التعبير، وبناء ثقافة إنسانية رائعة، نعتقد أن أغلب الدنماركيين سيعطوننا الحق في قولنا إن الإساءة إلى رسول الإسلام، كانت وقبل كل شيء إساءة إلى الثقافة الدنماركية نفسها، فرسوم كورت فيستركوغ التافهة أنزلت حرية التعبير في الدنمارك من عليائها إلى حضيض الصبيانية في استفزاز الآخرين.
الحياد … خيار العرب والمسلمين
ليس هناك اليوم من هو قادر على منع بوتين، أوغيره، من استغلال خطيئة الإساءة إلى الرسول الأكرم سياسيا في كسب قلوب مئات الملايين من المسلمين، وتلك الإساءة سجلت في صحيفة أعمال الغرب السياسي. إن مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإدانة الإساءة إلى الرموز الدينية، وتحديدا إلى رسول الإسلام الأعظم، وهي مبادرة ذات طابع سياسي، ستكون لها عواقب مهمة في الغرب السياسي، بما في ذلك الدنمارك وهي من دول الشمال الاسكندنافية.
لقد بدأ الآن زمن المزايدة على كسب ود المسلمين. نحن نستبعد أن يأتي يوم تجد فيه أغلبية برلمانية في الدنمارك ضرورة الاعتذار إلى المسلمين عن الإساءة إلى رسولهم الأكرم، فمسألة الإساءة لم تكن تتعلق بالسياسة على مستوى الدنمارك، ولم يكن بإمكان أي سياسي منعها. لكننا نتوقع أن تبذل جهود أو ضغوطات سياسية لتقوم صحيفة اليولاند بوستن التي نشرت الرسوم، بتقديم اعتذار واضح إلى المسلمين. وفي السياق السياسي، فإننا نتوقع أن يقوم البرلمان الدنماركي بتقديم الاعتذار إلى العراقيين لأنه خول بأغلبية بسيطة بعض السياسيين هنا الذين انساقوا وراء معتوه في البيت الأبيض، بالمشاركة في تدمير العراق ونهب ثرواته. الإساءة إلى الرسول الأكرم خطأ لن يصححه البرلمان، أما الحرب العدوانية على العراق فكانت خطأ البرلمان، والبرلمان يمكنه تصحيحه. والخطأ السياسي ذاك كان مسؤولا عن توفير الأجواء المناسبة لتحويل ما كان يمكن أن يبقى في نطاق المواقف الشخصية إلى فعل مشين ومثير للاشمئزاز.
إن مثل هذه الاعتذارات ستحدث كمحاولات للفوز في السباق الذي أطلقه الرئيس الروسي بوتين على كسب ود المسلمين في العالم. لكننا نرى أن الرسول الأكرم محمد هو قبل كل شيء قيمة أخلاقية وإنسانية لا ترقى إليها أية قيمة أخرى، فهو القدوة الحسنة للإنسان والإنسانية، ومؤسف أن تتحول هذه القيمة إلى نزال ثقافي زائف، أو إلى بضاعة في أسواق السياسة.
على المسلمين البقاء على الحياد في الصراع المقبل، وإجبار الآخرين على احترامهم، والاعتراف بحقوقهم، ليس بالوقوف إلى جانب هذا أو ذاك من المزايدين في تلك الأسواق، بل مقابل الوقوف على الحياد.