تونس – عَيِّنات من الواقع الاقتصادي والاجتماعي!
الطاهر المعز
تقرّر إجراء الانتخابات التشريعية يوم السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022، في ظل القانون الجديد الذي أقَرّه رئيس الجمهورية، والذي حَوَّر الدّوائر الانتخابية وشكل الاقتراع لِيُصْبِحَ التّصويت على أفراد تمكّنوا من جَمْع حصلوا عددٍ من التّزكيات، وليس على قوائم، وأعلنت أحزاب الائتلاف الذي كان يحكم البلاد قبل 25 تموز/يوليو 2021، بزعامة الإخوان المسلمين، وبعض المجموعات الأخرى، مُقاطعة الانتخابات، لكن معظمها، وخاصة “النّهضة” (الإخوان المسلمون) تَدْعَمُ ترشُّحَ “مُستَقِلِّين” في مختلف الدّوائر الانتخابية، أملاً بالحصول على كُتْلَة برلمانية وازِنَة…
أما في أسْفَل درجات السُّلّم الاجتماعي، فيترَكَّزُ اهتمام النّاس في البحث عن القوت اليومي، إذْ يُعاني المُواطنون من استمرار شُح السّلع الغذائية الأساسية والوقود وارتفاع أسعارها، وارتفاع إيجار المسكن والمرافق (الكهرباء والماء الصالح للشُّرْب…) واكتظاظ وسائل النّقل العمومي، ومن البطالة المنتشرة في كافة مناطق البلاد ومختلف الأجْيال، ما يضطرّ ذوي المُؤهّلات إلى الهجرة النّظامية، حيث يختارُهم مندوبو الشركات الأجنبية، مُؤَهَّلِين في مجالات الهندسة والطّب والتصميم الإلكتروني (البَرْمَجَة والتّطوير)، جاهزين للعمل في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وما يضطر الشباب من ذوي المؤهّلات الأخرى أو من غير الحاصلين على مؤهلات ومن المُعَطّلين عموما إلى المُغامَرة بحياتهم في البحر الأبيض المتوسّط، فيما يُشكّل ارتفاع الأسعار وغياب العديد من السّلع الضّرُورية قاسمًا مُشتركا، وهاجسًا لأغلبية المواطنين، من الفُقراء وكذلك من الفئات مُتوسّطة الدّخل.
لا تُعتَبَرُ الحكومة الحالية مسؤولة عن تراكم الدُّيُون وعن مآل الوضع الاقتصادي الحالي، لكنها مسؤولة عمّا يحدث بالبلاد حاليا، وعن البرامج المُستقبلية – فلم يُفِدْها اصطفاف سياستها الخارجية وراء الموقف الأمريكي، كما لم يُفِدْها قُبُول شُرُوط صندوق النّقد الدّولي، و لا تزال تلهث وراء الصندوق منذ أكثر من سنة للحصول على قرض تتراوح قيمته بين مليارَيْن وأربعة مليارات دولارا، بدون نتيجة، وأصبحت تبحث عن قرض عاجل (أو طارئ) من المصرف الأوروبي، لتمويل شراء الحبوب الأوروبية، فيما تُعلن الدّعاية الأمريكية، بالخطّ العريض، إن الولايات المتحدة ( التي تحتل أراضي سوريا وتدعم الكيان الصهيوني ) “مَنَحت تونس مساعدات لدعم فُقراء البلاد”، فأَيُّ كَرَمٍ هذا !!!
إن الحياة والمُمارسة الدّيمقراطية مُهِمّة وضرورية، وهي مُعَرّضَة للقَضْم بصورة مُستمرة، ولذا وجب الدّفاع عن مكتسبات الانتفاضة من حرية الرأي والتعبير وحرية الانتماء السياسي، غَيْرَ إن الجائعَ لا يستطيع التفكير في مواضيع أخرى غير البحث عن الطّعام، وتأتي الحملة الانتخابية في ظل أزمة خانقة جَمَعت بين الارتفاع الهام لأسعار المواد الأساسية والطاقة، وشُحّ البنزين وزيادة سعر اسطوانات غاز الطّهي بنسبة 14%، وغياب بعضها (الأُرز والطّحين ومُشتقات الحبوب والزيت والسّكّر وغيرها…) من الأسواق، وأدّى ارتفاع أسعار الغذاء – من السلع المستوردة كما من المحاصيل المَحَلِّيّة – والوقود وإيجار السّكن والملابس والنّقل ونفقات الصحة والتعليم وغيرها إلى ارتفاع نسبة التضخم الرسمية (وهي دون الواقع) إلى 9,1% بنهاية شهر أيلول/سبتمبر 2022، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء، وتأثر الميزان التجاري بانخفاض قيمة العُمْلة المَحلّية (الدّينار) وبارتفاع أسعار السّلع المستورَدَة، وأهمها الغذاء والطاقة والأدوية، فارتفع العجز التجاري إلى 19,2 مليار دينار (الدّولار يساوي 3,2 دينار تونسي) بنهاية الرّبع الثالث من سنة 2022، وقد يرتفع العجز إلى أكثر من 25 مليار دينار بنهاية السنة، ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن تُواجه حكومة تونس اضطرابات اجتماعية، إذا لم يتمّ الخُرُوج من النّفق الحالي، ويمكن نَعْتُ تقرير صندوق النقد الدّولي بالنّفاق والرّياء، فَبَعْدَ أشهر من المفاوضات لم تحصل حكومة تونس على القرض الذي تطلبه منذ أكثر من سنة، رغم قبولها الشروط المُجْحِفَة للصندوق الذي يشترط موافقةَ منظّمات “المُجتمع المَدَني”، ومنها اتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشّغل)، على شُرُوطه، أي موافقة النقابات على خَصْخَصَة مؤسسات القطاع العام، ما يعني تسريح العاملين، وفي مقدّمتهم النقابيون، وخفض رواتبهم، في ظل الارتفاع الكبير للأسعار بسبب ارتفاعها في الأسواق العالمية، وكذلك بفعل إلغاء الدّعم الحكومي لأسعار السلع الأساسية، وما المضاربة والاحتكار سوى عامل مُساعد لرفع الأسعار، وليس السّبب الرّئيسي، لأن توفير هذه المواد بالحجم الكافي يُساهم في استقرار الأسعار، لكن الحكومة عاجزة عن التوريد، فهي لا تملك المبالغ الضرورية لاستيراد هذه السلع بالعملات الأجنبية، ولا تُشجّع الإنتاج المَحلِّي للغذاء (بحكم التزامها مع الدّائنين)، ومن المتوقع أن يرتفع العجز التجاري وعجز الميزانية بنهاية سنة 2022 إلى ما يزيد عن خمسين مليار دينار، أو حوالي 17 مليار دولار، ورغم التصريحات المتفائلة لأعضاء الوفد الحكومي الذين حضروا المؤتمر السنوي لصندوق النقد الدّولي والبنك العالمي بواشنطن (من 10 إلى 16 تشرين الأول/اكتوبر 2022)، صرح مسؤول بصندوق النقد الدّولي، يوم 13 تشرين الأول/اكتوبر 2022 “إنّ الظرف الحالي لا يساعد على ضمان الاستقرار المالي وتحقيق الازدهار في تونس فذلك يتطلّب تنفيذ إصلاحات، منها اجتذاب الاستثمارات المباشرة ودَعْم القطاع الخاص”، أي ضخ المال العام في خزائن الشركات الخاصة وحرمان الفُقراء من دعم السلع الأساسية والصحة والتعليم والنّقل، وسبق أن أورد صندوق النقد الدّولي في تقريره الذي صدر يوم الثلاثاء 11 تشرين الأول/اكتوبر 2022، خَفْضَ توقُّعاته لنمو الاقتصاد التونسي إلى 2,2% بنهاية سنة 2022 وإلى 1,6% بنهاية سنة 2023.
إن النتيجة المنطقية لتنفيذ مخططات الحكومة، ضمن “الإصلاحات” التي يشترطها صندوق النّقد الدّولي تُؤَدِّي إلى تقليص عدد العاملين بالقطاع العام بنحو عشرة آلاف سنويا، لمدة لا تقل عن خمس سنوات، بهدف خفض الحجم الإجمالي للرواتب، وخصخصة ما تَبَقَّى من القطاع العام، وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية، ودعم القطاع الخاص، من خلال التّحفيز المالي والإعفاء من الضّرائب ومن تسديد حِصّة أرباب العمل في مؤسسات التّأمين الصّحِّي والاجتماعي…
أما النتيجة المتوقّعة فتتمثّل في تسريح العاملين وارتفاع نسبة البطالة التي زادت عن 18,6% حاليا وفق بيانات البنك العالمي، وزيادة نسبة الفقر التي فاقت 21% حاليا بحسب التّقديرات غير الحكومية، وفق تحليل نشرته وكالة “أسوشييتد برس” بتاريخ 11 تشرين الأول/اكتوبر 2022.
من يمتلك بديلاً للوضع الحالي وبرنامجًا وخطَطًا لتغييره، فليتفضّل وسوف أصْطَفُّ وراءه، أما الدعوة إلى الاصطفاف وراء عَمْرو أو زَيْد، دون تقديمه بدائل تخدم العاملين والكادحين والفُقراء، فهي مُجانِبَة للمنطق وعسيرة الهضم.
2022-10-18