تشينى.. قناص بلا ندم!
مهدى مصطفى
فى صباح بارد من شتاء تكساس عام 2006، خرجت رصاصة من بندقية ديك تشينى، فأصابت رفيقه فى رحلة صيد روتينية، فسجلتها السلطات حادثا عرضيا لا يستحق العقاب.
غير أن تلك الطلقة الطائشة بدت، فى ذاكرة التاريخ، رمزا مكثفا لمسيرة رجل تمرس فى إطلاق النار بلا ندم، من البرارى الأمريكية إلى صحارى المشرق، فقد جرب القنص مرتين: مرة فى الحقول، ومرة فى العراق.
مات ريتشارد بروس تشينى، يوم الثلاثاء الرابع من نوفمبر عام 2025، عن أربعة وثمانين عاما، بعد أن خاض خمس أزمات قلبية، وانتهى بقلب صناعي، ظل يخفق بالحروب حتى توقف.
المفارقة أن رحيله جاء فى يوم ثلاثاء، تماما كيوم الثلاثاء الذى شهد سقوط برجى التجارة فى نيويورك عام 2001، حين بدأ الليل الأمريكى الطويل الذى كان تشينى أحد مهندسيه.
حين سقطت الأبراج فى لحظة غامضة من القرن الجديد، سارع تشينى باتهام تنظيم القاعدة الذى أنشأته بلاده فى حربها الباردة، وأطلق مع الرئيس جورج دبليو بوش شعارا ملأ الشاشات: «أمريكا تحت الهجوم».
الرد كان جاهزا قبل السؤال، والعدو مكتوبا اسمه فى دفاتر البنتاجون منذ زمن بعيد، فاندفعت القوات إلى أفغانستان، ثم إلى العراق، حيث كان النفط ينتظر الغزاة، كما تنتظر الفريسة صيادها.
فى أفغانستان، عادت «طالبان» من ظلال التاريخ، بعد أن كانت وليدة دعم أمريكى لـ «المجاهدين» ضد السوفييت، كما وثق فيلم «حرب تشارلى ويلسون»، أما العراق، المنهك بثلاثة عشر عاما من الحصار، فصار هدفا سهلا، ووجد تشينى فى دموع اللاجئين وغضب المنفيين ما يصلح ذريعة أخلاقية للحرب.
جاء جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض مترددا فى خوض مغامرات خارجية، لكن تشينى أقنعه بأن التاريخ يصنع بالقوة، وليس بالموعظة الحسنة.
كان ديك تشينى قد خبر الحرب حين شغل وزارة الدفاع فى عهد بوش الأب، وقاد حملة الخليج الثانية عام 1991.
ومع عودته إلى السلطة بعد عقد كامل، استعاد شهوة النار والخرائط، وخلال ثمانى سنوات عجاف شهد العالم سلسلة الحروب التى حملت توقيعه: هجمات سبتمبر، وغزو أفغانستان، وغزو العراق، وحربا مفتوحة ضد ما سمى بالإرهاب، وتعذيبا فى سجون جوانتانامو، وخلطا متعمدا بين المقاومة والدم، حتى استيقظت ذاكرة الكراهية بين الشرق والغرب من سباتها الطويل.
ادعى تشينى أن للعراق صلة بهجمات سبتمبر، واستند إلى رواية مفبركة عن لقاء مزعوم بين دبلوماسى عراقى وعضو من القاعدة، ثم رفع راية أسلحة الدمار الشامل لتبرير الغزو.
وبعد أن احترقت بغداد، تحول الخطاب إلى حديث عن «نشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط»، بينما كانت الوثائق الاستخباراتية تفضح زيف كل تلك الادعاءات.
وحين صدر تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى عام 2014، عن التعذيب فى جوانتانامو، لم يبد تشينى أسفا، بل قال علنا إنه كان سيمنح منفذى التعذيب وسام الحرية، فى تصريحٍ يلخص عقيدته السياسية: لا ندم على القوة.
كان تشينى أحد رموز مدرسة المحافظين الجدد التى مزجت العقيدة الدينية بالقوة العسكرية، وتأثر بفكر منظرين مثل: ريتشارد بيرل وويليام كريستول، وترك وراءه تلاميذ يرون فى الحرب رسالة خلاص، وكان يؤمن بأن الهيمنة قدر أمريكي، وأن الشرق لا يفهم إلا بالبندقية.
فى سنواته الأخيرة، هاجم الرئيس الجمهورى الحالى، دونالد ترامب، ورفض دعمه، وصوت للديمقراطية، كامالا هاريس، فى انتخابات 2024، وشاركت ابنته ليز تشينى، الموقف ذاته، بعد أن خسرت مقعدها فى الكونجرس وغادرت الحزب الجمهورى وولايتها وايومنج.
عاش ديك تشينى متنقلا بين مكاتب البيت الأبيض، وغرف العمليات العسكرية منذ عهد ريتشارد نيكسون، مرورا بجيرالد فورد ورونالد ريجان وجورج بوش الأب ثم بوش الابن، وترك خلفه إرثا من الحروب يمتد من بغداد إلى كابول، ومن الخداع إلى الخراب.
رحل وهو يؤمن بأن القوة تصنع التاريخ، وأن الخطأ فى القنص يمكن أن يصبح «عقيدة السياسة».
2025-11-06