بيان إلى المؤسرلين الذين يعيشون بيننا!
مصطفى مهدي
في السنوات الأخيرة، أخذ يعلو صوتٌ بين بعض النخب والشرائح الاجتماعية العربية يروّج لفكرة أن إسرائيل قوة قدرية لا تُهزم، وأن الهزيمة أمامها أمر محتوم، ويدعو إلى القبول بالأمر الواقع والانخراط في مسار التطبيع معها. هذا الصوت لا يكتفي بتبرير الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إنما يحاول أن يضفي عليه شرعية تاريخية، مصوّرًا إسرائيل باعتبارها القوة المؤهلة لقيادة الشرق الأوسط، مستندًا إلى ما حققته من انتصارات عسكرية على ميلشيات، وكأن التاريخ توقف عند تلك اللحظة.
يقوم هذا الخطاب على تضخيم صورة العدو إلى حد الأسطرة، فيصوّره كقوة لا تُقهر، قادرة على إلحاق الهزيمة بأي طرف عربي أو إقليمي، وأن من يعارضه سيواجه حتميًا التدمير والتهجير. ويستند إلى روايات دينية مشوّهة، تُنتزع من سياقها وتُقرأ بعيون الفكر الصهيوني، في إعادة إنتاج للأساطير التي قامت عليها دولة الاحتلال. والأدهى أنه يتنصل من الانتماء العربي، ويقدّم إسرائيل على أنها الطريق إلى الحداثة والتقدم، متعاميًا عن جوهرها الاستيطاني الإحلالي.
هذه الرؤية تقوم على أوهام ومغالطات، أبرزها الزعم بأن إسرائيل تخوض حروبها بمعزل عن الولايات المتحدة وأوروبا، بينما التاريخ والوقائع الموثقة يثبتان أن الدعم الغربي، والأمريكي خصوصًا، كان الحاسم في بقاء إسرائيل وتفوقها العسكري. كما تقوم على اعتقاد أن ميزان القوة العسكري يترجم مباشرة إلى شرعية سياسية، متجاهلة أن الأمم والشعوب قادرة على قلب هذا الميزان حين تتسلح بالإرادة والوعي، وأن قوى استعمارية كبرى انهارت رغم تفوقها الساحق.
حتى الحديث عن أن أي هجوم على إيران سيكون قرارًا إسرائيليًا مستقلاً يتجاهل حقائق ماثلة، أهمها أن مثل هذه العمليات الكبرى لا يمكن أن تتم دون غطاء سياسي واستراتيجي ودعم عسكري من القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. إن الادعاء باستقلالية القرار الإسرائيلي في هذه المسائل ليس سوى ستار لتجميل صورة التبعية العميقة.
إن التجربة التاريخية للصراعات مع القوى الاستعمارية تُظهر أن التفوق العسكري لا يمنح بقاءً دائمًا، وأن المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعًا استيطانيًا إحلاليًا، يواجه أزمات ديموجرافية وأمنية وسياسية تتعمق مع الزمن. وغياب الحل العادل للقضية الفلسطينية يبقي جذور الصراع حية، ويجعل كل محاولات فرض الأمر الواقع هشّة وقابلة للانهيار.
إن الرهان على المستوطنة الصهيونية ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو موقف ينطوي على تنازل عن الكرامة الوطنية، وتبرير لاغتصاب الأرض والحق. على الفلسطينيين والعرب أن يتمسكوا بحقهم التاريخي، وأن يطوروا أدوات المقاومة بكافة أشكالها، وأن يواجهوا خطاب التطبيع الذهني الذي يحاول أن يشرعن الاحتلال تحت عناوين مضللة مثل الواقعية أو التحديث. ففلسطين ليست للبيع، وإرادة الشعوب ليست سلعة، والتاريخ لم يكتب فصله الأخير بعد.
دار حوار بيني وبين أحدهم، ولم أتصور أن يكون من بيننا نفر يتمرغ في تراب الصهيونية إلى هذا الحد..
2025-08-11
