انكشاف الحلقات المفقودة!
مهدى مصطفى
عجلة الموت ستتوقف فى غزة، فيما تبقى بصمة المسألة اليهودية شاهدة على تاريخ دموى يمتد إلى ألفى عام، ولم يسبق أن انكشفت أعصابها العارية بهذه الحدة.
التخطيط يبدو محكما، والسيناريوهات متماسكة، غير أن اكتشاف حلقة مفقودة ينسف الحبكة التراجيدية.
بعض الحلقات تقوم على وهم أو خرافة أو سرد أسطورى، يندفع المجانين لتبريره، ومع انهيار الحلقة المحكمة يتصاعد صخب عدمى يخلط الحابل بالنابل.
سوف نعيد تركيب الصورة إلى ملامحها الأصلية.
صناع الحرب، الغارقون فى المقدسات والوعود السماوية، يحددون اللحظة المناسبة لإطلاق اللعبة الكبرى، وفق مفهوم «الفوضى الخلاقة» التى انتقلت من علم الكيمياء ونظرية الفوضى فى الفيزياء إلى الإستراتيجيات السياسية.
شكل السابع من أكتوبر 2023 محطة واهنة فى المشهد، حيث دفع العقل الخرافى الذى يقود حكومة نتنياهو إلى إشعال الإقليم العربى بالنار، بهدف جذب القوى الغربية إلى قلب الميدان.
التحولات الكبرى لا تنشأ بلا مقدمات.
جاءت الحرب الروسية – الأوكرانية بعد عقدين من تحويل أوكرانيا إلى ساحة متقدمة على تخوم روسيا الغربية، فى إطار المخطط الأوراسى الذى حذر منه بريجينسكى، واعتبره فرصة أمريكية سانحة.
روسيا، بما تحمله من إرث اجتماعى وثقافى ودينى وفلاحى، واجهت نابليون وهتلر وتجاوزت انهيار جورباتشوف، ثم كسرت الطوق الذى نسجته نظريات أنتونى بلينكن وفيكتوريا نولاند وجماعة المحافظين الجدد، حيث ظهر الهدف المعلن روسيا، فيما ظل الهدف الأعمق أوروبا المنهكة فى الحربين العالميتين.
العقل الأمريكى، كما صاغه نيكسون وبريجينسكى، يضع أوروبا تحت السيطرة الدائمة، وهو ما تجسد فى الاتفاقيات العسكرية والتجارية التى وقعها ترامب، ثم فى لقائه مع بوتين فى ألاسكا، فى مشهد يعيد إلى الأذهان اتفاق يالطا عام 1945 على تقسيم النفوذ فى عالم ما بعد الحرب العظمى.
الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أى بين قوة نووية كبرى وحلف الناتو، استخدمت جميع أشكال الحرب التقليدية والهجينة، ما كشف اختلاف الحروب الحديثة عن أنماطها السابقة فى أهدافها الإستراتيجية.
فى خضم هذا الصراع، اندلعت معركة غزة، فأعادت إلى الواجهة جغرافيا يعتبرها البعض مقدسة.
بدت اللحظة فرصة فلسطينية للتحرير منذ 1948، غير أن البيان «الفلسطينى» الأول حمل هدفا أقل من التحرير، أقرب إلى تبادل أسرى، فيما بدا الطرف الإسرائيلى مستعدا لدفع الناتو والقوة الأمريكية إلى قلب العمليات، استنادا إلى قناعة معلنة بأن الدولة العبرية لا تكمل ثمانين عاما.
الحرب أطلقت ضجيجا إعلاميا وثقافيا غير مسبوق، حيث ظهر لوم الضحايا على موتهم، وكشفت الاصطفافات الفكرية والسياسية عن عجزها فى مواجهة الحلقات المفقودة.
بينما المواجهة التى استمرت اثنى عشر يوما بين إسرائيل وإيران، أظهرت اختراقات عميقة للنسيج الاجتماعى فى الأخيرة، وصلت إلى حد علماء الذرة، وقد تم إعدام أحدهم بتهمة التجسس، كما كشف تفجير البيجر فى لبنان عن هشاشة بلاد الأرز، وأيضا كشفت الحرب، عن عجز الدولة الإسرائيلية الصغيرة مساحةً وسكانًا، عن حماية وجودها فى حرب حقيقية.
يجيء اجتماع الرئيسين الأمريكى والروسى فى ألاسكا بعد عقد من الانقطاع لإغلاق فجوة فى إدارة العالم، مؤكدا استحالة قيادته بقوة واحدة، كما فشل فى ذلك بسمارك ونابليون والإسكندر والخان الصينى الأعظم والخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون.
وتتصرف النخبة الإسرائيلية الآن على أساس أن الشرق الأوسط هو المسرح الأمثل لمركزية حكم العالم، عبر إعادة إنتاج نصوص مقدسة وطمس أخرى.
الحرب تمضى إلى نهايتها، وتجر معها الخرافات والوجوه التى أطلت من النوافذ لنشر لغة متدنية أوهنت الفكر الإنساني.
الحلقة النهائية من السيناريو تنكشف تحت حقيقة أن القدرة الكلية وهم، وأن ضحايا الحروب ليسوا وحدهم الخاسرين، بل إن مشعلى النيران والمتسلقين على الهامش ينحدرون إلى أسفل مراتب الإنسانية.
لعل نهاية الحرب الحالية تجعل العقل الغربى يفهم أن العقل الشرقى يظل ابن ثأر، وينظر إلى الموت كمرحلة تسبق مرحلة أخرى، فيما العقل الغربى يقيس المكاسب والخسائر بموازين مختلفة.
تصريح ترامب عن وقف الحروب إذا وصل إلى الرئاسة ظل شعارا، ومع مرور أشهر على ولايته الأخيرة اتسعت دائرة النزاعات، فثمة شبكة عنكبوتية تهيمن على القرار العالمى، تظهر مع كل اشتعال، ثم تنكفئ حتى جولة جديدة، حين تسقط حلقة وتولد أخرى.
وقديما قال جاليليو هامسا، أثناء محاكمته بتهمة الهرطقة: ولكنها تدور.
2025-08-14
