العالم أكثر جنونا!
مهدى مصطفى
العالم يترنح كوحش جريح، يساق إلى جنون شامل، كأن نيرانا سوداء تجره من عنقه نحو الهاوية، وكأن «سلام القوة» لم يعد سوى سيف يلمع فوق الأعناق.
القانون رماد، والشرعية الدولية سراب، والإنسانية التى ملأوا بها الدنيا ضجيجا تلفظ أنفاسها الأخيرة عند أبواب فلسطين.
القتلة يعلنون، بلا وجل، أنهم لا يريدون خصوما، إنما يرغبون فى المحو الكامل للبشر، وحتى الاستسلام لن يوقف آلة الإبادة.
هيروشيما وناجازاكى تلوحان فى الأفق كدرس جاهز للتكرار، كأن العالم كله مرشح للاحتراق، متى سنحت الفرصة، فمن يعبد الدم لا يترك مكانا للآخر، إلا إذا ردعته قوة أشد من جحيمه.
لولا أن روسيا تملك ما تدافع به عن وجودها، لكانوا قد محوها منذ زمن بعيد، إذ لا يفل الحديد إلا الحديد.
فلسطين وقفت كجبل يواجه الطوفان المتدفق من إرث الحرب العالمية الثانية، فعرت المسرح، وأسقطت الأقنعة.
جماعة «المسألة اليهودية» ترتكب جريمة إبادة حية على الهواء، تجعل خبز الأطفال أهدافاً، وتحول الماء إلى سلاح، فيما الأمم المتحدة عاجزة تكتفى ببيانات باردة تقول فيها: منع الغذاء سلاح إبادة.
لجان دولية تشهد ولا تفعل، وخبراء يصرخون فى الغرف المغلقة: شعب كامل مهدد بالمحو، وكل مواثيق البشر وقوانينهم تبعثرت كأوراق خريف أمام عاصفة الحقيقة.
انهارت صورة العدالة، سقطت هيبة الأمم المتحدة، انكشفت فلسفات الحداثة، وانطفأت الخرافة الكونية، ومنظمة العفو الدولية تشهد: قتل متعمد، وتشريد، وتجويع، وتفكيك لبقاء الإنسان.
المأساة تعيدنا إلى أصحاب «المسألة اليهودية» قبل قرن، لكن، بوجه مقلوب: يبيدون شعبا أمام عيون العالم، وهم الذين زعموا بأنهم كانوا ضحايا أوروبا.
هل كان للعرب دور فى هذه المزاعم؟
لا، بل تم اختيارهم ليكونوا الضحية بدافع غربى، لا يزال يرى فى إسرائيل وظيفة مريحة.
الصدمة ليست فى الدماء وحدها، إنما فى تغييب الشهود، فى رصاص الاغتيال الذى أسكت الكاميرا، وفى سجن الكلمة الحرة، وفى قتل الحقيقة فى مهدها.
ندرك الآن أننا أمام حضارة تلتهم ذاتها، حضارة تهشم مرآتها، حضارة تعجز عن مواجهة وجوهها الملطخة بالغزو.
محكمة العدل الدولية تصرخ: «خطر إبادة وشيك»، والعالم يصم أذنيه، ونصوص 1948 تتحول إلى أشباح على الورق، والدم يفيض على الشاشات، والضمير العالمى يختفى، كأن الأرض كلها مسرح صامت لملحمة الموت.
أقول لأصحاب الخرافة، ولمن يستلهمون جنونها المميت: فلسطين لن تسقط، ومن تحت الركام سيخرج صوت أقوى من الرصاص، سيخرج نشيد من دم، وإعلان من نار: إن الحق فى الوجود لا يمحى، ومن بين أنقاض البيوت ودموع الأطفال وعرق الصامدين، ستكتب معادلة جديدة: الكلمة من تحت الأنقاض أقوى من السيف، وإرادة الحياة أصلب من الفولاذ.
العالم كله سيسمع الصدى، وفى أستراليا خرجت الحشود كطوفان بشرى تهتف: كفى.
فى هولندا التف الناس حول قصر السلام ورسموا بأجسادهم خطا أحمر، وفى بريطانيا تمرد الضمير، واستقال المئات احتجاجا على بيع السلاح للقتلة، وفى أمريكا، راعية “المسألة اليهودية”، دوى صوت سيدة دبلوماسية واحدة كالبرق: “لن أكون سببا فى زيادة الكراهية لأمريكا”، ومن واشنطن إلى لندن، ومن سيدنى إلى برلين، خرجت الملايين، نهضت الشعوب، صار اسم فلسطين نشيدا عالميا، وصار الدم الفلسطينى جرس إنذار للبشرية.
فلسطين الآن مختبر العالم، ومرآته الكبرى.
إما أن تنبعث إرادة الحياة من بين الركام، أو يبتلعنا ظلام مطلق لا فجر بعده، فلسطين، بجراحها ودمائها، قد تكون الشرارة التى تنقذ العالم من جنونه، أو الطعنة الأخيرة فى قلب الإنسانية.
هذا زمن الملحمة، زمن الحقيقة التى لا يمحوها سيف ولا يخنقها دخان القنابل.
هذا زمن فلسطين، حيث يكتب الدم ما عجزت عن كتابته الكلمات، وحيث ينهض صوت واحد من بين ملايين ليقول: العالم سيغدو أكثر جنونا إذا لم يتحرر من خرافة “إسرائيل الكبرى”، وإذا لم يتوقف الغرب عن إنتاج الموت باسم ”الحرية” لـ”المسألة اليهودية”.
2025-08-28
