اعتراف.. تحول.. ابتلاع!
مهدى مصطفى
بعد عقدين من الفوضى، والتدخلات، والنصائح المجانية حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ـ تلك التي توزع عادة على الشعوب الأخرى لا المواطنين الأمريكيين ـ خرج نائب الرئيس الأمريكى، جى دى فانس، ليعلن ما يشبه التراجع السياسي، أو لنقل مراجعة بصوت هادئ يشبه همس الاعتراف فى جنازة رجل وحيد.
قالها بصراحة نادرة أمام دفعة جديدة من الأكاديمية البحرية الأمريكية: إن مشروع بناء الديمقراطيات فى الشرق الأوسط «كان أقرب إلى المستحيل»، وإن التريليونات التي أُنفقت فى هذا الطريق لم تثمر عن معنى لأمريكا.
اعتراف متأخر؟ ربما.
لكن المسألة تتجاوز توقيت الكلام، إذ لا يبدو ما قاله فانس مجرد مراجعة، بقدر ما هو إعادة تعريف للدور الأمريكى فى المنطقة.
حين يقول الرجل إن المهمة كانت خاطئة، فهو لا يعتذر ـ لا تقلق ـ بل يضع نهاية لمرحلة ويؤسس لأخرى.
مرحلة لا مكان فيها للشعارات الكبرى، ولا لحديث الحريات الطازجة.
الوجه الجديد أكثر عملية، أكثر هدوءا، أكثر «نضجا»: اتفاقيات للطاقة، مشروعات للأمن، مقاربات ناعمة لبنية المجتمعات، وتحالفات تبقى تحت السطح، كجمر تحت رماد.
على مسافة تبعد الآف الأميال من الأكاديمية البحرية، حيث كان يخطب فانس، جاء تصريح آخر، بدا نبيلا على الورق، على لسان توم باراك، المبعوث الأمريكى إلى سوريا: “قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدودًا مرسومة بالقلم، لتحقيق المكاسب الإمبريالية، ذلك الخطأ الذى كلف الأجيال الكثير، ولن نكرره مرة أخرى”.
تصريح يبدو اعتذارا عن خطأ قديم، غير أنه لا يشير إلى نهاية التدخلات، بل إلى تطويرها.
فالمشهد الإقليمى لم يعد يدور حول خطوط سايكس بيكو، بل حول واقع جديد، تتحرك فيه التحالفات كأحجار الشطرنج، وتعاد فيه كتابة المفاهيم والحدود والسيادة… دون أقلام، ودون خرائط، وأحيانًا دون أن يشعر أحد.
أما التنظيمات التى كانت ترفض فى المؤتمرات وتلعن فى البيانات، فقد صارت تطرق أبواب الصالونات، بأسماء جديدة مثل «التأهيل السياسى» و«دمج الهويات».
كل شىء يبدو محسوبا هذه المرة، وحتى الانقلابات تدرس على هيئة دبلومة، أو رسالة دكتوراه بينما تحاك مشاريع الاستقرار فى قاعات الفنادق لا فى الثكنات.
فى هذا المسرح الجديد، تبرز قوة إقليمية واحدة بوصفها المستفيد الأكبر من إعادة الترتيب: إسرائيل، التى لم تعد فقط «شريكا إستراتيجيا»، بل باتت، فى رؤية كثير من صناع القرار، حجر الزاوية فيما يسمى “المحور الأمنى الجديد”، ومركز الثقل فى «الاستقرار المطلوب فى المرحلة الآتية».
تطرح نفسها كقوة تكنولوجية واقتصادية لا غنى عنها، وتجلس فى قلب الطاولة لا على طرفها.
أما الدول العربية المركزية، فثمة ضغوط ناعمة تمارس عليها للانخراط فى هذا المسار.
المسار يبدو تعاونيًا، شفافا، فيه كثير من المصطلحات الرائقة، غير أن تحته تجري إعادة توزيع عميقة للأدوار والمصالح، ضمن خرائط لا تنشر، وجداول لا تعرض على الشاشات.
الجديد فى الإستراتيجية الأمريكية ليس الانسحاب، بل التحول.
لم تعد الجيوش هى الوسيلة، ولا الطائرات المسيرة، ولا البوارج.
المسرح الآن تديره مراكز الأبحاث، وورش العمل، وبرامج التدريب السياسى، وتقارير تصدر من مؤسسات مثل «راند» و«بروكنجز»، تشرح كيف يمكن إعادة هندسة الشرق الأوسط… دون حرب، ودون ضجيج، ودون لافتات.
ليست المسألة اعتذارا، ولا انسحابا، ولا توبة وطنية.
إنه شكل جديد من الحضور، ناعم، خفي، طويل النفس.
فبعد أن جربت القوة الخشنة، يجري الآن اختبار النسخة المصقولة من الهيمنة.
والمطلوب من الشعوب، كما من الأنظمة، أن تتكيف، وتتناسق، وتوقع، وربما تبتسم أمام الكاميرات… مع وعد بعقود استثمار جديدة، وبعض الورش المشتركة.
أما «الربيع» الجديد، فلن يأتي هذه المرة على ظهر دبابة، ولا عبر بث مباشر من ميدان عام.
سيأتى على هيئة ملف ورقى، موقع من جهة غامضة، مختوم بابتسامة هادئة.
لن يشبه سايكس بيكو فى الشكل، لكنه يحمل الكثير من ملامحه القديمة، وربما نسخة محدثة منه… أكثر ذكاء، وأقل تكلفة، وأشد قسوة.
2025-05-29
