أيديولوجية الإمبراطورية الروسية القادمة ٢! عبدالله جناحي
ألكسندر دوغين
المحاور الرئيسية لجيوبولتيكا روسيا
إن التطبيق(الجيوبولتيكي) الذي يقترحه دوغين لدعم “الإمبراطورية الجديدة” يتمثل في المحاور التالية:
١- المحور الغربي، موسكو/برلين:
إن أوروبا الوسطى منطقة شديدة التجانس ويمكنها أن تترك أثراً على جنوب القارة كإيطاليا واسبانيا. أما بريطانيا فهي قاعدة عائمة للولايات المتحدة ولذلك علينا أن نحولها إلى”كبش فداء” والتضحية بها وتشجيع الحركات الانفصالية لدى القوميات الإيرلندية والسكوتلندية والويلزية فوق الجزيرة، وفرنسا عليها أن تتوجه إلى الخط النابليوني الذي رأى في أوروبا وحدة قارية واحدة، وهو ما جسدته سياسة ديغول الذي تحالف مع ألمانيا سعياً إلى إقامة الكونفدرالية الأوروبية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.
“إن التكامل بين ألمانيا وروسيا ضرورة تفرضها اللحظة الراهنة والتي تبدو ألمانيا فيها عملاقاً اقتصادياً لكنها قزم سياسي، بينما روسيا هي عملاق سياسي لكنه كسيح اقتصادي، ويمكن لكل من الدولتين أن تتكامل مع الأخرى. وأن على روسيا أن تكون مستعدة لإعادة منطقة كالينغراد-روسيا الشرقية سابقاً- إلى ألمانيا في سبيل تدعيم هذا التكامل، وبخاصة أن تلك المنطقة تمثل رمزاً إقليمياً قد يؤدي إلى حرب يقتتل فيها “الاشقاء” الروس والألمان”.-بشأن هذا المحور، فإقدام بوتين على غزو أوكرانيا قد أدى إلى إجهاض هذا المحور المهم في إضعاف القطب الأمريكي المهيمن على أوروبا، وكانت اتفاقيات تجارية ومركز محطة الغاز الروسي جد مهمة بين روسيا وألمانيا قد تحققت، وكانت الإمبريالية الأمريكية منزعجة منها، لكن لربما الحكومة الروسية فضِّلت الاستحواذ على أوكرانيا والتخلي مرحلياً عن بناء محور روسي ألماني فرنسي لمواجهة القطب الواحد، أو لخلق قطب رأسمالي جديد أوروبي. وهنا يبدو أن النظرية أصبحت غير مهمة للسياسة العملية والعسكرية، فالسيطرة على الأراضي، وليس التنازل عنها لألمانيا كما يقترح دوغين، هي جوهر العقل الجيوبولتيكي الحالم بعودة الإمبراطورية-.
٢- المحور الثاني، موسكو/طوكيو:
(ملاحظة مهمة: تأملوا رؤية العقل الجيوبولتيكي النظري التأريخي اتجاه الصين، وتفضيل اليابان عليها!).
إن سياسة (الإمبراطورية الأوراسية) نحو الشرق تحتاج إلى البدء مع الهند التي أخذت منذ تحررها بالبحث عن (الطريق الثالث) وأظهرت ميلاً إلى الإتحاد السوفياتي، وهو ما يشجع على عقد التحالف. لكن ضعف الهند الاقتصادي وتواضع مستواها التقني يزهدان في هذا التحالف، فلا يسند للهند إلا دور المخفر الأمامي للأوراسيا، ولاستلهام من ثقافتها الروحية التي يمكن أن تساعد على تفسير التوجهات الميتافيزيقية للإمبراطورية الأوراسية القادمة-لاحظوا النظرة الدونية للقارة الهندية، وترويج روحانياتها في العالم الروسي الجديد!-. أما الصين فلا مندوحة الاختيار بينها وبين اليابان حليفاً لأوراسيا، رغم أن التاريخ قد أثبت أن الصين وليس اليابان كانت جيوبولتيكياً القاعدة الأهم للانجلوساكسونية في القارة الآسيوية!- في اللاشعور لا يمكن لمن يحلم ببعث حلم الإمبراطورية الأوراسية القديمة إلا ويبحث عن حلفاء أضعف منه، ولكن الصين حضارة عريقة ودولة قوية حالياً، لذا لاحظوا نظرة دوغين الروسي لها، ولربما هذا هو أيضاً الهاجس الصيني المعاصر في عدم الرهان والتعويل بالمطلق على نظريات عرقية قديمة والتحدي مع القطب الغربي اقتصادياً في هذا العالم المحشو بالنووي في كل زاوية منه- أما اليابان، فدوغين يرى بأنها قد دأبت على إقامة العلاقات مع دول المحور الأوروبي. إن علماء الجيوبولتيكا الغربيين كانوا يحذرون دوماً من أن أكبر خطر تتعرض له الأطلسية (أمريكا) هو قيام تحالف الأقاليم الثلاثة: أوروبا وروسيا والمحيط الهادي، ومن أجل الحيلولة دون ذلك أُثيرت النزاعات الروسية الألمانية، والروسية اليابانية عبر التاريخ مثلما زرعت الكراهية والأحقاد المتبادلة التي يجب أن تزال الآن لإرساء محور موسكو/طوكيو، فهو وحده القادر لا على أن يضعف الأطلسية الأمريكية فحسب، بل وعلى أن يقضي عليها. إن الأمور ممهدة لتحقيق ذلك، فاليابانيون لن ينسوا الإبادة الذرية التي تعرضوا لها، ولا الاحتلال السياسي لبلادهم. ولن تجد روسيا لنفسها حليفاً أفضل من اليابان ويمكنها معاً أن يحققا تكاملاً فريداً يتوفر فيه لليابان الاستقلال السياسي والنظام العسكري الاستراتيجي والمواد الطبيعية التي لا تنتهي، كما تتوفر لروسيا التقنية العالية الجودة والإمكانات المالية الضخمة، ويمكنهما معاً تطوير سيبيريا وحل مشاكلها، كما يمكن للعلاقات المنغولية-اليابانية القائمة على وحدة الأرومة والأصل العرقي والروحي بأن تلعب دورها في تحقيق هذا التقارب. وحرصاً على ذلك يمكن لروسيا أن تعيد لليابان جزر الكوريل التي تعدّ تذكيراً بالمذابح الحمقاء التي اختلقها الأطلسيون.-هنا أيضاً مثالية النظرية تتعارض مع ضرورة الاستحواذ على المزيد من الأراضي وليس التنازل عنها-.
٣- المحور الثالث، موسكو/طهران: وهو التحالف القاري المهم أيضاً بسبب وجود العدو الأطلسي المشترك. فالعالم الإسلامي يعاني من الانقسام في عدة اتجاهات: الاتجاه الأصولي الإيراني، التيار العلماني التركي، التيار العروبي (سوريا، والعراق سابقاً، السودان، وإلى حد ما مصر والسعودية)، التيار الأصولي السعودي الوهابي، وأخيراً صور مختلفة للاشتراكية الإسلامية، وكتلك النماذج القريبة من العروبية في مفهومها اليساري. وعلينا إبعاد التيار التركي والتيار السعودي الوهابي. فلا يتبقى لدينا سوى الأصولية الإيرانية، والعروبية في صيغتها اليسارية. إن المكسب الثمين الذي تحققه الأوراسية من خلال محور موسكو/طهران هو تأمين خروج روسيا إلى البحار الدافئة والذي ظلت تسعى إليها خلال قرون طويلة. إن حرص روسيا على بلوغ المياه الدافئة وحرص الأطلسيين على منعها من ذلك سواء عن طريق الشواطئ الجنوبية للقارة عبر المحيط الهندي أو عن طريق البوسفور والدردنيل أو حتى جبل طارق، تلك المناطق التي بقيت ردحاً طويلاً من الزمن تحت السيطرة الأطلسية. إن التحالف الروسي-الإيراني يساعد على حل روسيا لمشاكلها الجيوبولتيكية مع دول آسيا الوسطى، كما يمكنها من أن تقيم ذلك التشكل الإسلامي المتجانس إستراتيجياً والمتلون من الناحيتين الإثنية والثقافية والمرتبط بالإمبراطورية الأوراسية القادمة. أما الخط الثاني للتحالف الأسيوي من الجنوب والذي يسميه دوغين بالعروبي فيشمل جزءاً من آسيا الوسطى والشمال الإفريقي، وهو تكتل مهم جداً من أجل السيطرة على الشواطئ الجنوبية الغربية لأوروبا الغربية. فقد بسط الأطلسيون (الأمريكان) سيطرتهم على الشرق الأدنى والشمال الأفريقي بغية فرض ضغطهم السياسي والاقتصادي على أوروبا. أما تطبيق تكاملية المشروع العروبي مع الإمبراطورية الأوراسية فإن تنفيذه يسند إلى القوى الأوروبية -وبخاصة ألمانيا-. وإذا كان التحالف الروسي-الإيراني سيكون غير مستحسن للجانب العربي بسبب خصوصية الصيغة الشيعية الآرية للإسلام الإيراني-تأملوا ربط المذهب الشيعي بالآرية في إيران!-. فمن الممكن أن يقوم المشروع العروبي إلى إقامة تكتله المستقل المعادي للأطلسية، تكون أقطابه الأساسية العراق-سابقاً، وليبيا-أيضاً سابقاً، وفلسطين المُحررة (؟!؟!؟) وسوريا وفقاً لشروط محددة-بدون أن يوضح تلك الشروط. (تأملوا نظرة دوغين المُنظِّر الحالي للفكر الروسي الرسمي، كيف ينظر للعرب!.
في كتابه الأول خضع كل الشرق الأوسط العربي تحت هيمنة محور روسيا وإيران التي ستكون مسؤولة عن دور العرب، حسب مقدمة مترجم الكتاب. وفي هذا الكتاب اللاحق فصل العالم العربي عن محور روسيا/إيران وتركنا تحت قيادة صدام الذي رحل، ثم تحت قيادة القذافي الذي رحل أيضاً، ثم تحت قيادة فلسطين المُحررة، أي حرروا فلسطين أولاً ثم تعالوا للتكامل !!!. وأن تبقى مصيرنا في ظل الإمبراطورية الأوراسية الروسية القادمة تحت قوة ألمانيا الأوربية، ورغم أن دخول روسيا في أوكرانيا قد نسف وأجهض حلم هذه النظرية في وجود محور روسي ألماني يكون مسؤولاً عن عالمنا العربي، وهذا العقل مشروع تماماً في ظل غياب مطلق لأي مشروع عربي واحد موحد وواضح للمشاركة في أي تحالفات لما بعد انتهاء العالم أحادية القطب، وهذا يعني بأن العالم العربي حتى في ظل عالم متعدد الأقطاب، مهما كان مضمونه إنسانياً أو استبدادياً، فسيبقى العربان مشتتين بين هذه الأقطاب، ولا قطب خاص قوي لهم. فالكل في أفلاك الآخرين يسبحون، ولا يعملون لخلق فلكهم العربي الخاص ليكونوا رقماً في الفلك الكوني القادم، وليس فقط نيازك أو أقمار نفطية تدور في مجرى كواكب الأقطاب الجديدة-.
دوغين ينهي مسرحيته بوجود تكتل عربي واحد لخدمة القطب الجديد العالمي (الإمبراطورية الأوراسية) بالفقرة التالية: إن جميع هذه الأقطار العربية-يقصد العراق سابقاً، وليبيا سابقاً، وفلسطين المحررة، وسوريا بشروط- هذه الاقطار تمتلك خصوصية مشتركة وهي وضوحها للخطر الأمريكي ورفضها بصورة جذرية النموذج الرأسمالي للسوق، على أن يعهد بمهمة تطبيق انضمام المشروع العروبي للإمبراطورية الأوراسية إلى ألمانيا أو لأوروبا على العموم ؟!؟!؟ وأن يبقى الهاجس الأساس والمباشر لروسيا في العالم الإسلامي فيجب أن تكون إيران دون سواها.
شروط نجاح تحقيق هذه المحاور الأوراسية الأربعة:
إن نجاح روسيا في تحقيق هذه الأحلاف وصولاً إلى قيادتها للقطب العالمي الذي تستطيع فيه أن يواجه القطب الأوحد الأطلسي وينتصر عليه، تحتاج إلى تحقيق النقاط التالية:
الأولى: تجميع الإمبراطورية:
إن كانت هذه الدعوة غريبة لعصرنا الحاضر، ولكن التجربة الإنسانية تؤكدها. إن الإمبراطورية الوحيدة التي بقيت مستمرة حتى الفترة المتأخرة هي الإمبراطورية السوفياتية التي قضي عليها الأطلسيون، وليس من المستحيل إعادتها، إضافة إلى أن التوجه إلى إقامة التكتلات الكبرى صار السمة الجامعة للقرن العشرين.
الثانية: العودة إلى الدين والقومية:
وتطبيق التربية الدينية التي تعد الأجيال بطريقة مخالفة لما سار عليه الإتحاد السوفياتي. وترسيخ الروح المحافظة والقومية وتبني التقاليد التي تعزز قيم الأمة الأوراسية ورعايتها. ((وإن على الروس أن يفهموا بأن هوية كل شخص بمفرده هي مقدار ثانوي وفرعي من الهوية القومية. وعلى الروس أن يعوا أنهم قبل كل شيء ارثوذكسيون، وفي المرتبة الثانية روس، وليسوا إلا في المرتبة الثالثة أن يكونوا بشراً، الأسمى من كل شيء هو الوعي الأرثوذكسي للأمة ككنيسة، ثم الوعي الواضح للآانفصالية الكلية وشمولية ووحدة الجهاز الروسي الإثني الحي المكون ليس فقط من الأحياء بل ومن الأجداد ومن الأجيال القادمة، وأخيراً في المرتبة الأخيرة: معاناة الشخصية المحددة كوحدة نووية مستقلة. يجب إضفاء الروح الكنسية الشاملة على الروس وتحويل كافة المؤسسات الثقافية كامتداد للكنيسة الواحدة. بمثل هذه الطريقة الراديكالية فقط يمكن للروس أن يعودوا بصورة واقعية إلى أحضان الكنيسة المكنونة في وجودهم القومي التاريخي)).
الثالثة: الآفاق العسكرية للإمبراطورية:
لروسيا قراراتها من حيث توسطها القاري ومساحاتها اللامتناهية وتأريخها الإمبراطوري العديد القوميات. وهناك فرادة اخرى هي توفر الأسلحة الإستراتيجية والقدرة على ضرب العدو. وهذا ما يعد حماية لأي حلف تشارك فيه روسيا. ((يجب أن تبقى روسيا دولة فوق العظمى عن طريق استمرار صناعة الأسلحة الإستراتيجية التي فيها منفعة حتى على الصعيد الاقتصادي، فالسبيل الأسهل للحصول على كميات أوفر من السلع الجيدة ليس تحويل الصناعات الحربية إلى صناعة الحلل والغسالات، بل مواصلة وتعزيز صنع حاملات الطائرات والغواصات النووية. وعند توفر الضمانة السياسية يمكن لبضع غواصات نووية أن تجلب لروسيا بلداناً بكاملها ذات صناعة متطورة)). وهذا ما فعلتها روسيا مع أوكرانيا !!!.
الرابعة: الآفاق الاقتصادية للإمبراطورية:
تمتلك روسيا تقنيات وموارد ووفرة الخامات الطبيعية. ولذلك المطلوب عدم تطبيق خيار المركزية السوفياتية في الاقتصاد ولا الليبرالية الأطلسية، وإنما المطلوب (الطريق الثالث) القائم على المركزية من حيث الإستراتيجية السياسية -أي التخلص من الديمقراطية الانتخابية التنافسية-، وعلى الشراكة في أوسع صورها من الناحية الاقتصادية -واضح بأن المقصود اقتصاد حر ورأسمالي-.
لروسيا، فإن دوغين يرى بأنها تعكس نظرة الروس إلى أنفسهم كشعب “ذي رسالة وذي مهمة كونية، ففي حالة روسيا يستحيل التجرد عن وزنها العالمي. وهذا الطابع يحدد زاوية النظر نحو قضاياها الجيوبولتيكية الداخلية، روسيا الحالية ترث في وقت واحد خط العاصمتين السلاڤيتين (كييف) و(فلاديمير)، وخط محطات قيادة جنكيزخان السهوبية. فإذا ما أضفنا إلى ذلك انفتاح بطرسبرغ على البلطيق وتوسطية موسكو بين المناطق الجغرافية السياسية، اقتربنا من فهم الطبيعة الروسية وطبيعة تضاريسها الجغرافية، وسياسة المركز والأطراف على أرضها”.
في حديث دوغين عن”تهديد الغرب” فيقسم الغرب إلى غربين؛ أحدهما أوروبا والآخر الغرب الأطلسي “وإذا كانت السياسة التي ينبغي تطبيقها على الغرب الثاني تقوم على بث الفوضى الجيوبولتيكية في الواقع الأمريكي عن طريق التشجيع -وبكل فعالية- لجميع حركات المخالفة في الرأي، تشجيع الفئات المتطرفة، العنصرية، الطائفية التي تزعزع الاستقرار في السياسة الداخلية في الولايات المتحدة. أما الغرب الأوروبي على العكس من ذلك، يجب أن تشجع على إقامة وحدتها وأن يجري العمل على إقامة تحالف باريس-برلين. فالمهمة الأهم هي تخليص أوروبا من نفوذ الولايات المتحدة عن طريق تعزيز علاقات التكامل الروسي الأوروبي.
دول (النطاق الصحي): في دراسة دوغين عن دول (النطاق الصحي) يحلل طبيعة هذه الدول الأوروبية “الصغيرة البينية الحاقدة ولامسؤولة تاريخياً، ذات مطالب متهوسة وارتباط عبودي بالغرب الأطلسي. هذه الدول البينية عملت خلال التاريخ على تدمير التشكلات القارية للإمبراطوريات الكبرى، كالإمبراطورية الروسية والنمساوية/المجرية والإتحاد السوفياتي”. إن هذه الدول وهي تتسابق للانضمام إلى حلف الناتو”بسبب من سياسة موسكو الخيانية ستختار وفق أقرب الاحتمالات، وبطريقة واعية دور (النطاق الصحي) لخدمة الولايات المتحدة الأمريكية، في حين يجب أن يعي مسئولو هذه البلدان أن قبول الأنموذج العولمي يعني، بدون زيادة ولا نقصان، التدمير الكامل والنهائي لذاتيتهم ولهويتهم، للوجه التاريخي لدولهم وأممهم، ونهاية تاريخهم القومي”.
صدام حسين
إن الوضع العالمي الحالي في نظر دوغين حاد الاستقطاب، فإما القبول بالنظام الكوني العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وإما التكوين الفوري للتكتل الجيوبولتيكي المناوئ للأطلسية. بل إنه لم يعد مهماً بأي صيغة وتحت أي شعار يظهر ذلك التكتل الجديد. المهم أن يظهر، وأن يكون مضاداً للعولمة. ذلك أن المهمة الأساسية للولايات المتحدة الآن هي الحيلولة دون قيام الخيار الجيوبولتيكي المعارض للعولمة. وقد وصل الأمر إلى درجة لا تسمح بالاختيار بين الجيد والأجود. فإذا استطاعت روسيا أن تنهض بتلك المهمة كان خيراً، فإذا لم تفلح في ذلك فلتقم بتنفيذها كتلة أوروبا الوسطى تحت الراية الألمانية -مرحلياً بعد غزو أوكرانيا هذا الحلم تراجع، أو كتلة آسيا الوسطى تحت راية الثورة الإسلامية -يعني الدواعش وطالبان مثلاً، أو إيران؟- أو فليتصدَّى لإنجاز المهمة العالم العربي -صدام حسين والقذافي والأسد- أو إمريكا اللاتينية- وهذا احتمال وارد مستقبلاً. وغودين واعِ بأن العالمين العربي واللاتيني غير مزودين من الناحية العسكرية، وبما يؤهلهما لمواجهة دولة فوق العظمى-كتب دوغين مقدمة للطبعة العربية من كتابه (أسس الجيوبولتيكا)، الذي صدر عام ٢٠٠٩. فغير من خطته الأوراسية تجاه العالم العربي في تقديمه، حيث يقول (الرؤية الأوراسية للعالم العربي: ينطلق المشروع الأوراسي من أن الإنسانية في القرن الحادي والعشرين يجب أن تعيش ضمن شروط التعددية القطبية لا وحدة القطب. فالعولمة الوحيدة القطب تحمل في ثناياها خطراً مميتاً على الإنسانية ويجب أن يحدد الكل خيار واقعها وموقفها من هذه العولمة، ومثل هذا الخيار لا يمكن أن يكون مشروع الحفاظ على الدول القومية السابقة مثل فرنسا، مصر، لبنان، وروسيا، إيران وسواها، ويستحيل على كل دولة من الدول القائمة حالياً -باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية- أن يصل إلى حدود “القطب” بمفردها، وفقط عن طريق التكامل مع المجموع يمكن إقامة التعددية القطبية الحقيقية. والمشروع الأوراسي للعالم المتعدد الأقطاب يرى أربعة أحزمة كونية موزعة على خطوط الطول: الأمريكي، الأوروأفريقي، الأوراسي، الباسيفيكي. وكل حزام يتكون من عدة مجموعات كبرى (آماد كبرى). والعالم العربي يمثل في هذه اللوحة واحداً من ثلاثة (آماد كبرى) للحزام الأوروأفريقي. وعلى شماله يمتد (المدى الكبير) الموحد للإتحاد الأوروبي، وإلى جنوبه “المدى الكبير” لأفريقيا السوداء، “والمدى الكبير” للعالم العربي يمثل المعسكر الذاتي المكتفي بنفسه والموحد حضارياً وثقافياً ودينياً واقتصادياً وإستراتيجياً. وهو يتلقى الدعم التقنو-اقتصادي من الشمال، ويدعم هذا النبض المتنامي باتجاه الجنوب الإفريقي عبر الصحراء. وينبغي الأخذ بعين الاعتبار إزاء ذلك أن المشروع الأوراسي يرى الإسلام القاري (غير العربي) -يقصد خصوصاً إيران- “مدى كبيراً مستقلاً بذاته” يرتبط تقنياً وفق خطوط الطول بروسيا-الأوراسية. وهو يعني عدم وجود بصورة طبيعية احتكاكات مع “المدى الكبير” العربي. الشيء الوحيد الذي يلزم التحذير منه هو مشاريع الأصوليين والسلفيين والوهابيين الذين يبسطون أنموذج الخلافة ليس فقط على العالم الإسلامي كله -بما في ذلك غير العربي منه- بل وعلى الإنسانية كلها، لا يساعد بصورة واضحة على تحقيق آمال الوحدة العربية في التطبيق. إن أواصر تاريخية كثيرة العدد تجمع. بين الروس والعرب. ولكن بالإضافة إلى الماضي هناك المستقبل أمامنا. مستقبل بناء العالم المتعدد الأقطاب الذي يحترم تنوع الثقافات والأديان والحضارات. وهذا يعني أيضاً عدواً واحداً هو العولمة، الغرس الكوني للأطلسية الأمريكية، ومن المعروف أن لا شيء يوحد كالعدو المشترك).
بشار الأسد
الانتقادات الروسية على أفكار دوغين:
يستعرض ألكسندر دوغين في مقدمة الطبعة الثالثة (١٩٩٩) من كتابه (أسس الجيوبولتيكا الأوراسية) بأن هناك عددًا كبيرًا من التقييمات الناقدة الحادة لأفكاره المطروحة في هذا الكتاب منها بأن (تطبيق الروس للمسلمات الجيوبولتيكية سيؤدي إلى صراع قاس لا مفر منه مع حضارة الغرب. إن التأكيد على الهوية الأوراسية سيناقض، بدون شك وبصورة مباشرة، المصالح الحيوية لعدوها الإستراتيجي-المعسكر الأطلسي- وبعبارة أخرى فإن الكثيرين قد رأوا في النظرة الجيوبولتيكية ما أثار قلقهم من “العسكرية” و”التبشيرية الجديدة”، وما إلى ذلك)، ويرد على هذه الانتقادات بفقرات هي ذاتها في مضمونها-بل وبعض مصطلحاتها- أستخدمها الرئيس الروسي بوتين في خطابه الأول بعد غزو جيشه لأوكرانيا- كمصطلح إستخدام الغرب وأمريكا الكذب والخداع. يقول دوغين في عام أبريل ١٩٩٩ ، كما قال بوتين في فبراير ٢٠٢٢: (إن الأمريكان يمارسون الجيوبولتيك الخاص لمصالحهم، دون أن يوقفوا العدوان العسكري المباشر والذي يشهد أنموذجه المثير للتأثير، والمثير للاشمئزاز بما ينطوي عليه من “تفاهة وحطّة وكذب”، في عدوان الناتو على يوغسلافيا، وحتى الآن فإن من يستعرض “العسكرية” و “التبشيرية” هو المعسكر الأطلسي، لا المعسكر الأوراسي. وأمام هذا الاستعراض للإرادة الأطلسية ولجبروتها ونزقها فإن الرد المنطقي الوحيد هو العودة إلى المخزون الحضاري الخاص وتجنيد المصادر الإستراتيجية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية والضرورية لروسيا لكي لا تمحى من التاريخ باليد الحديدية لبناة “النظام العالمي الجديد”).يواصل دوغين-كما قال بوتين في خطابه بالضبط بعد ٢٣ سنة: (أصبح من الواضح اليوم أن اتفاقية “يالطا” قد سقطت، وعلى الصعيد العالمي يرتسم واقع جيوبولتيكي مفعم بالشر يُفرد فيه لنا، لبلادنا، لشعبنا مكان من الدرجة العاشرة.
ما الذي على روسيا أن تفعله في هذه الحالة؟ وفي أي نهج تسير؟ أتندفع في سلسلة لا نهائية من التنازلات؟ أتتورط في هذه الفوضى والانفصالية والخواء والحروب الأهلية؟ أم تضم جميع صفوفها، على الرغم من كل شيء، وتواجه الشر الذي تم إعداده بصورة متقنة، وذلك بإقرارها الطرح الأوراسي الجديد؟ الدرب الجديد؟ دربنا؟). هذا الدرب الروسي الراهن في أوكرانيا كشفه ألكسندر دوغين في مقابلته الحديثة مع قناة الجزيرة القطرية بأن “الدرب الحالي لا رجعة فيه، حتى لو اضطررنا إلى استخدام محدود للأسلحة النووية”. هذا هو مُنَظِّر العالم الروسي الجديد، الذي يؤمن أشد الإيمان بأن يوم البعث السماوي أصبح قريباً، ونهاية العالم هي جزء من هذا البعث !. لقراءة الجزء الاول.. أضغط على الرابط. https://www.sahat-altahreer.com/?p=98931 2022-05-05