يوم جيد للبنان، أخيرا ؟ إذا سمحنا له بذلك ولو لمرة واحدة!
أمل غندور – ترجمة: غانية ملحيس *
إنك تنظر إلى الفلسطينيين في غزة وهم يصرخون فرحاً وارتياحاً بعد سماعهم أنباء رسمية عن وقف إطلاق النار. إنهم يعبرون عن فرحة وارتياح الكثير منا في بلاد الشام بعد عام كابوسي.
في مساء الحادي والثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر/ 1992، وهو عصر مضى من لبنان، غمر مشهد مجنون من الألعاب النارية سماء لبنان.
كان رفيق الحريري، الرجل البدين ذو الجيوب العميقة والطموحات الضخمة، قد صعد للتو إلى منصب رئيس وزراء بلد مزقته الحرب ويائس من النهوض.
اغتنمت شقيقة الحريري، بهية، الفرصة في ذلك اليوم لتعلن لنا نحن اللبنانيين أنه “يمكننا جميعاً أن ننام الآن على” الحرير”، وهو اسم مستعار لأخيها.
صحيح، كما استنتج بعضنا بسرعة كبيرة، أن الألعاب النارية التي أضاءت الليل لساعات طويلة بدت وكأنها لا نهاية لها، كانت في الواقع إعلان الحريري عن أسلوبه في الحكم: التباهي، والتألق، والحيوية.
لم أكن من المعجبين برئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. فقد أصر على أن النظام الظالم الذي كان سائداً قبل الحرب، والذي ازداد سوءاً بسبب التشوهات التي أحدثتها خمسة عشر عاماً من سفك الدماء، يمكن صقله وتحويله إلى نظام لا يتأثر بتشوهات وتناقضات النظام، ويعتمد عليه بالكامل. وقد وجدت أن هذا الاقتراح سخيف ويخدم مصالح شخصية.
ولكن الحريري كان لديه رؤية عظيمة وخطط أكثر عظمة. ولا يمكن إلقاء اللوم على اللبنانيين المنهكين من مختلف الطبقات، على اختلاف انتمائهم الطبقي، لأنهم رأوا المنقذ البطل في الرجل الشائن.
ومن المؤكد أننا في عالم النخبة، كانت الإغراءات من الحجم الذي لم يكن متاحاً من قبل لشهواتنا المسرفة.
لقد زعم رئيس الوزراء وأنصاره أن طريقته كانت في الواقع طريقة لبنان. وإلا فلن تتمكن من تحريك البلاد إلى الأمام. لقد رد منتقدوه بأن المجتمعات لا تستطيع أن تزدهر في ظل الديون المتراكمة، والاستهلاك غير المحدود، والسياسات التافهة، والفساد المستشري.
إن الحريري، الضخم، الذي يميل إلى النمو بشكل متزايد. ولبنان، الصغير، الذي يميل إلى النمو بشكل متناقص. كانا غير متوافقين، والتوافقات بطبيعتها محكوم عليها بأن تعاني من نهايات رهيبة. وهكذا كان الحال ــ بالنسبة للإنسان والوطن.
مأساوي!
عندما شاهدت العماد جوزيف عون، رئيسنا المنتخب حديثاً، يلقي خطابه أمام البرلمان بعد أن منحه 91 صوتاً فوزه، ذكّرني ثابتان أساسيان بذلك اليوم من شهر تشرين الأول/ أكتوبر/ قبل 33 عاما. ما زلنا بلدا مزقته الحرب، بلدا أكثر يأساً في سعيه إلى البعث. ونحن شعب يتوق أكثر فأكثر إلى منقذ.
ولكن عون ليس الحريري. المواقف مختلفة، والأوقات مختلفة، وكذلك الشخصيتان.
ما أعرفه عن العماد جوزيف عون هو ما سمعته وقرأته باستمرار. هناك صفة واحدة تتحدث بصوت عالٍ عنه: إنه رجل متحفظ ونظيف، يكره بشدة اللمعان والظهور. كما يُقال إنه عنيد للغاية، وهي صفة قد تخدمه أو تعيقه في مهمته.
بينما كنت أشاهده وهو يلقي خطابه، تأملت في داخلي: مثل هذه الوعود الجريئة من قبل جندي متحفظ! إن إعلان نهاية الفساد والمحسوبية، وشن حملة صارمة على غسيل الأموال، والاتجار بالمخدرات، والتهريب، والاستثمار الجاد في دولة قوية، وجيش قوي، وقضاء مستقل، يعني في الأساس إعلان نوع من الثورة.
وبطبيعة الحال، فإن الواقع المحزن هو أن تأكيد الرئيس على أن قوانين البلاد سوف يتم تطبيقها بشكل موحد وشفاف، كان في الأساس يعلن الحرب على مؤسسة خارجة عن القانون.
ولكن الرئيس لا يملك نفوذا تشريعيا وتنفيذيا. وأولئك الذين يتعين عليه الاعتماد عليهم لتشريع وتنفيذ تعهداته هم أولئك الذين استهدفهم في خطابه، إلى جانب شركائهم وممكنيهم العديدين في كل مكان في المجالين العام والخاص.
وما لم يكن لديه نفوذ جدي ومستدام، داخليا وخارجيا، عليهم، أو ما لم يستيقظوا فجأة على تدمير طرقهم وأساليبهم الضالة ويستسلموا، فسوف يتحركون بسرعة كبيرة لوقف زخمه وتقويض أجندته.
ثم في الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير/جاءت المفاجأة: فقد فاز نواف سلام، وهو رجل قانون بارز ورئيس محكمة العدل الدولية المنتخب مؤخرا، بالسباق البرلماني في المشاورات على منصب رئيس الوزراء.
إذا كان الرئيس قد قدم وعوده بجدية، فإن فرص نجاحه تبدو وكأنها تحسنت بشكل ملحوظ.
فنواف سلام رجل يتمتع بالنزاهة والتفكير العميق والمعرفة العميقة بنفس القدر بتعقيدات تاريخ لبنان وقوانينه وسياساته. وقد تولى المنصب باعتباره ابناً لعائلة بيروتية بارزة تتمتع بسجل طويل من المشاركة السياسية والخبرة الدبلوماسية. وهو يحظى بالاحترام ويتمتع بالمصداقية عبر قطاعات كبيرة من المجتمع.
وإذا افترضنا أن جوزيف عون ونواف سلام سيعملان معا كفريق واحد لمعالجة أزمة وطنية ذات أبعاد وجودية. والحاجة الملحة لإعادة بناء حياة الناس في أعقاب حرب شرسة، فإن لصالحهما احتمالات كبيرة:
دعم شعبي كبير.
ونفوذ داخل الجهاز العسكري والأمني.
إن هناك كوكبة من القوى الدولية والإقليمية، كل منها على حدة تبدو حريصة على تقديم الدعم المالي والسياسي
والجهات الفاعلة الرئيسية، مثل إيران، التي قد تكون ميالة إلى تقديم التنازلات.
إننا نستطيع أن نأمل بشكل معقول، أيضا، أن تركز سوريا- التي كانت لعقود من الزمن قوة معطلة في السياسة اللبنانية – على الداخل لفترة طويلة جدا قادمة.
وفي مواجهة هؤلاء الأعداء يقف خصوم لبنان المحترمون:
الجار الإسرائيلي الشيطاني الذي قد تؤدي مخططاته في بلاد الشام وخارجها إلى كارثة إن لم يتم كبح جماحه.
والمافيا الطائفية والتجارية المتماسكة.
والأعداء الحسودون من نفس الطوائف الذين يعتبرون نجاح الرئيس ورئيس الوزراء هزيمتهم.
ويمكننا أيضا أن نقلق بشكل معقول من أن سوريا- التي تلوح سياساتها دوما فوق سياساتنا- قد تنزلق إلى الفوضى والصراع.
ومن التحديات الأخرى التي تواجه جوزيف عون ونواف سلام، أيضا، استياء حزب الله. فالحزب يريد حلفاءه في المنصبين مع الاحترام الثابت المعتاد. ومن الواضح أنه في لحظة من الخطر العظيم الذي يواجه لبنان، يدعو حزب الله والمدافعون عنه إلى وضع راهن فاسد تماما جلب الخراب علينا جميعا. إنني أضيف أن هذا كان بمثابة الخراب لحركة المقاومة ذاتها، التي ازدادت تدنيسا على مر العقود كلما تعمقت في المستنقع السياسي في لبنان. إن اعتراضات الحزب على سلام مثيرة للفضول بشكل خاص.
فلا أحد يشكك في مؤهلات الرجل،
ولا في موقفه من فلسطين،
ولا في نزاهته،
بل إن كل ما يشكك فيه هو أنه رجل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.
وكما هو واضح، يتعين علينا أن نفترض، من خلال رفضه تلقي الأوامر من حزب الله نفسه. وذلك لأن لا شيء في السيرة الذاتية الطويلة لسلام يوصي به كرجل متملق لأي دولة.
يصبح السؤال عن المنافسين الذين أوصى بهم حزب الله، وهم جميعا من الأعضاء القياديين في العصابة الحاكمة؟ وبالتأكيد ليس مؤهلاتهم المثيرة للإعجاب وسمعتهم التي لا تشوبها شائبة.
إن هذا هو الوقت المناسب للتأمل العميق بقدر ما هو الوقت المناسب لاتخاذ إجراءات عاجلة.
إن المقاومة، التي يظل نضالها العنيد ضد إسرائيل الإنجاز الأكثر أهمية الذي يوصي بها العديد من اللبنانيين، لابد وأن تعيد النظر في الحضور الذي تريد أن يكون لها في السياسة والقيم والمثل العليا التي تريد أن تتبناها في هذا الدور.
بعد كل التضحيات التي قدمها حزب الله على مدار العام الماضي، وخاصة من جانب مجتمعه، يبدو من البديهي بالنسبة لشرعية حزب الله أنه لا يستطيع أن يغضب من الظلم الذي وقع على الفلسطينيين، ويستمر في التواطؤ في الظلم الذي وقع علينا نحن اللبنانيين، على الرغم من الاختلافات الصارخة بين الخطأين.
إن لبنان معقد كما نريده نحن شعبه أن يكون. ونحن جزء من مؤلفي هذه القصة الحزينة التي نعيشها منذ أصبحنا دولة حديثة.
لقد كنا قادرين على اتخاذ القرارات، وتجاهلنا تحذيرات حكمائنا، وسخرنا من نصائحهم الحكيمة، وارتكبنا الخطايا، وارتكبنا الأخطاء الاستراتيجية، وأطلقنا العنان لجشعنا الشخصي على حساب الصالح العام، واستسلمنا بلا مبالاة لطائفيتنا الصغيرة، وقتلنا بعضنا البعض مرارا وتكرارا.
لقد وصلنا اليوم إلى نهاية حبلنا، بالكاد نتشبث بخيطين ممزقين للغاية. ولدينا الفرصة لمحاولة إنقاذ رصين وصابر لجسم سياسي مثقل بالجروح المميتة التي ما لم يتم علاجها. هل تعلمنا درسنا؟ سوف نحصل على إجابتنا عاجلا أم آجلا
المصدر: https://www.facebook.com/photo/?fbid=10170794448110788&set=a.10151563182065788
أمل غندور – ترجمة: غانية ملحيس
يناير 18, 2025