بين عوالم الكم وعوالم الكينونة: قراءة في مقال عادل الأسطة عن رواية “كوانتوم” لأحمد أبو سليم!
غانيةملحيس
في لحظة يشتد فيها الخراب في غزة، وتكسر موازين الرعب في إيران، وتوشك العيون أن تزوغ والعقول أن تتيه، وجدت نفسي أنساق مجددا إلى مقال أعاد نشره الناقد الأستاذ عادل الأسطة بعد ستة أعوام، بمناسبة رحيل الشاعر والروائي الفلسطيني أحمد أبو سليم. المقال المعنون بـ” روح المؤلف ونصه: كوانتوم لأحمد أبو سليم”، دفعني – رغم ثقلي الزمني والذهني- إلى اقتفاء أثر لم أكن أعلم بوجوده، ودخول عوالم ما حسبت يوما أني سأبلغها.
لم أكن قد قرأت لأحمد أبو سليم من قبل، فاهتمامي الأدبي ظل محصورا في دائرة ضيقة، إما لأسباب وجدانية، أو لسطوة الحضور الإعلامي لأسماء بعينها. وقد استوقفني في مقال الأسطة عنوان الرواية “كوانتوم” بمفردته الغريبة على الأدب. فانطلقت أبحث عن مدلولها، ووجدت أنها تشير إلى “أصغر كمية يمكن تقسيم بعض الصفات الفيزيائية إليها”، وهو ما أثار فضولي أكثر، فغصت في سيرة الكاتب، وفوجئت بغزارة إنتاجه وتمرده على النمطية. ووجدت كاتبا يختار عناوينه كمن يختار معاركه.
لم تكن “كوانتوم” الاستثناء، بل كانت جزءا من مشروع لغوي ورمزي متكامل. “أزواد” رواية تحيل إلى الطوارق وهوية منفية في صحراء مالي.
و”بروميثانا” تمزج بين أسطورة بروميثيوس وأزمنة الخراب الكوني، و”يس” التي تحيي مجزرة دير ياسين، و”باباس” التي صدرت قبيل رحيله. وفي كل عنوان كان هناك تمرد على التصنيف، وانحياز إلى ما هو حدي، تخوم، وهامشي في الجغرافيا والذاكرة واللغة.
مقال عادل الأسطة يركز على رواية “كوانتوم” بوصفها نقطة تلاق بين الكاتب ومهنته الأصلية: الفيزياء. ويقرأ النص على ضوء منهج يؤمن بوحدة النص والكاتب، حيث تظهر روح المؤلف في كل سطر من سطور الرواية، حتى لو تغايرت ضمائر السرد. يلاحظ الأسطة أن “كوانتوم” ليست مجرد استعارة علمية، بل عدسة فكرية وفلسفية تخترق الزمن والمكان، وتحول القدس إلى نقطة كثافة فيزيائية روحية، لا مجرد جغرافيا مغتصبة.
وفي مقاربة الأسطة، تحضر القدس ليس فقط بوصفها ساحة مقاومة، بل أيضا بوصفها حقل تجارب لمفاهيم علمية مثل الاحتمال، التموج، العوالم الموازية، والنظائر البشرية. وهنا تبرز المفارقة: كاتب يزور القدس زيارة عابرة، يكتب عنها رواية أكثر عمقا من بعض أبنائها المقيمين. وكأن الفيزياء منحت أبو سليم قدرة على النفاذ إلى طبقات غير مرئية من المدينة، إلى ما وراء الصورة، إلى “ما تبقى لنا” – بعبارة كنفاني – ولكن بلغة جديدة. ويعلي الناقد من حضور الفيزياء بوصفها ليس فقط خلفية علمية، بل أساسا معرفيا يقلب علاقة القارئ بالنص، ويجعل العنوان نفسه “كوانتوم” مركز ثقل دلالي لا يكتمل إلا بقراءة السطر الأخير.
ورغم إعجابي العميق بقراءة الأسطة، إلا أن ما استوقفني في مقاله هو ملاحظته حول غياب التمييز بين “اليهودي” و” الصهيوني” في الرواية، رغم أن بعض الشخصيات تنتمي لحركة القوميين العرب. وهنا أجدني أفتح قوسا نقديا مكملا: هل يستطيع الخطاب القومي أن يواجه تعقيدات الآخر دون أن يسقطه في ثنائية الخير/الشر؟
وهل بإمكان الرواية العربية اليوم أن تعيد تمثل الإسرائيلي بوصفه مشروعا معقدا، لا مجرد تجسيد للعدو؟
هذا سؤال مؤلم، لكنه ملح، في زمن تظهر فيه الغالبية العظمى من الإسرائيليين تأييدا سافرا لمحو غزة. الحديث عن خطاب متقدم لا يعني تبرئة الآخر، بل فهمه بقوة، لمواجهته بذكاء، لا بحنق شعاراتي. ومن هنا أرى أن رواية “كوانتوم”، بما تتيحه من تعقيد سردي وفلسفي، تمثل فرصة لإعادة صياغة العلاقة مع “الآخر” – الإسرائيلي والذاتي معا – خارج قوالب الخطاب القومي التقليدي.
يختم عادل الأسطة مقاله بمقارنة لغوية بين “كوانتوم” و”ما تبقى لكم”، ويستحضر في ثنايا النص تكرارات درويش: “أنا/أنت”. وهنا لم أقرأ هذه الإشارات بوصفها تقاطعات أسلوبية فقط، بل بوصفها امتدادا لمشروع أدبي فلسطيني وجودي، حيث تتحول الذات من موضوع سردي إلى ساحة صراع بين الذاكرة والاحتمال، بين الواقع والممكن، بين ما هو أنا، وما هو “أنا الآخر”.
الرواية إذا ليست فقط مرآة لواقع سياسي أو ذاكرة جماعية، بل أداة معرفية لتفكيك الذات، والمكان، والآخر. إنها كتابة تحاول أن تقول ما لا يقال، بلغات ما بعد الحداثة، دون أن تفقد بوصلتها السياسية والأخلاقية.
أعاد عادل الأسطة في مقاله المعاد نشره بمناسبة رحيل الشاعر والروائي أحمد أبو سليم الاعتبار لصوت لم ينصف وطنيا وأدبيا بما يكفي. وما سعيت له أنا – بالتعدي مرة ثانية على حقل الأدب – انطلاقي من مقاله، لأعيد اكتشاف الكاتب والرواية والذات الفلسطينية في آن.
لقد أدركت، متأخرة، أن هناك كتابا يعيشون بيننا دون أن نشعر بهم، لأننا ـ نحن القراء ـ نعيش أسرى الضجيج والتكرار والكسل المعرفي.
أما أحمد أبو سليم، فقد كتب ما يشبه فيزياء الوعي الفلسطيني، وربما علينا الآن أن نعيد قراءته كما يستحق: لا شاعرا وروائيا فقط، ولا فيزيائيا سابقا، بل مفكرا سرديا أراد للغة أن تقاوم، لا أن تصف.
21/6/2025