ولا زال يدور ويدور!
نصار إبراهيم
“والتفتوا إلى أُمِّي لتشهد أَنني هُوَ… فاستعدَّتْ للغناء على طريقتها: أنا الأمُّ التي ولدتْهُ،لكنَّ الرياحَ هِيَ التي رَبَّتْهُ. قلتُ لآخري: لا تعتذر إلاّ لأمِّكْ!”(محمود درويش)
***
حدث ذلك ذات آب بعيد، في تلك اللحظة الموغلة في الوقت والمكان فاجأ الحياة وفاجأته. غادر رحم أمه فوجد نفسه وحيدا يتعربش فضاء شاسعا. كان صغيرا كحبة قمح ألقت بها قوة غامضة في مهب الجهات التي تقرر أقداره.
في خيمة تنهض عند أقدام جبل تحرسها التلال وقمر يشحن الذاكرة بمفردات الليل وهديل اليمام، هناك تعلمت يداه لغة التراب والحجارة وتفاصيل الأعشاب والقش والأشواك بلا وسيط. تعلم لغة الليل وحكمة الرياح العابرة من الأفق الغربي بين منحدرات الزيتون وهي تمضي شرقا أو جنوبا تراقص الشجيرات البرية والصخور الغافية على حواف التلال منذ زمن لا يذكره أحد. تعلم رائحة الأرض ومعاني المطر. تعلم طعم الماء من نقرة في الصخر أو من بئره الأولى. كل هذي الخوافي تبدو الآن بعيدة.. بعيدة… لكنها لا تحيد عن دروبها.
لا شئ على صفحة الوعي سوى الحدس والفطرة. مجرد حقل بكر. من لحظتها راح يدور وينزاح عن نقطة البداية بعل قوة طاردة غامضة. فراح يتسع كدوائر مياه لا نهائية ولدتها حصاة عابرة. ذرة تسبح في مدارات شاسعة. كان يعتقد أنه حرٌّ.. لم يكن يدري أنه كان مقيدا بحركة ذرات لا حصر لها وهي تمضي في الكون. راح يغامر شادّا ذاته للأعلى ما استطاع، فيما جذوره تذهب في الأرض بفعل قانون الجاذبية والبقاء.
ينظر. يحبو. يقف. يتعثر.يمشي. يقف ويتعثر مرة أخرى. يصمت. يتقدم. يتراجع. يسأل. يشك. يوقن. يتردد. يبحث. يتعلم. ظلّ يحاول أن يتجاوز ذاته ليجدها. من نقطة الارتكاز الأولى عميقا عميقا هناك بدأ. كان في البداية حرا. ومع الوقت راح يفقد حريته بالتدريج. راحوا يعلمونه كيف يأكل. يمشي. يتكلم. يفكر. يتصرف. يكره. يحب. ينضبط. الممنوع والمسموح. الجيد والسئ. المقبول والمرفوض. السوي والشاذ. أعادوا صياغته من جديد. أعادوا ضبط حواسه وفق معادلاتهم. علموه كيف يصبح ذرة كغيره من الذرات. علموه كيف يولِّد من ذاته ذرات تشبهه وتشبههم تماما.
راح يدور ويدور ويدور في أفلاكه البعيدة. راح يحاول التحرر من قوانين الجاذبية. من قانون الطرد المركزي. ليتسع ويمتد ويصعد. كان يتلاشى كقطرة ماء في السديم المطلق. يغادر شرنقته. يمزقها. يحرر أجنحة روحه ليصبح فكرة حرّة. يغمض عينيه ليرى العالم أوضح. يرسل يديه ليصل أبعد مما يرى.
راح يدور.. ويدور.. ويدور… يبدأ من مركز الكون ومن هناك يرحل كومضة في المسافات والجهات. لكنه لا يقطع مع نقطة الاتكاز الراسخة. كان يعود دائما كسنبلة زادتها الحياة حكمة وهدوءا. لا تعرف سوى أن تعطي ما لديها. هكذا يتكون المعنى في السنبلة لتكون قمحا يبدع خبزا للطريق.
راح يصعد طريق جلجلته، حاملا الفكرة والموقف والأسئلة. علّم عقله احترام الأسئلة.. لكن الإجابات تستدعي أن يتعلم ما هو أبعد مما يرى ويسمع، فتعلم جدل الظواهر، تداخل الأبعاد، وتقاطع التفاعل وتعقيده، وحدة الكون والوجود. جدل السبب والنتيجة، الظاهر والمضمر.
في سياق الرحلة هذه كثيرا ما التبست عليه الأمور والوعي، كثيرا ما كانت التوقعات أعلى من ممكنات الواقع واللحظة. لكنه مع الزمن تعلم أن الظواهر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية أيضا تحدث فيها “ظاهرة انكسار الضوء”. وبأن هناك فرقا بين شعاع الوعي الساقط منه وحقيقة الأمر كما هو، فأصبح أكثر براعة بحيث لا تخدعه ظاهرة انكسار الضوء.
وهكذا… لا يزال يدور… ويدور .. ويدور!
2023-08-20