وداعا إيفان جاريلوف.. أخي الذي لم تلده أمّي ولا أمتي!
غانية ملحيس*
يأتي رحيلك أيها الغالي ثقيلا على النفس والروح. ويفاقم الوجع المقيم الذي يسكن قلبي. فالموجة الجديدة من حرب الإبادة الجماعية المتواصلة للعقد الثامن على التوالي التي يشنها التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري على الشعب الفلسطيني، تواصل حصد أرواح آلاف الأطفال والنساء والشيوخ والشباب في قطاع غزة وعلى امتداد فلسطين الانتدابية للشهر الحادي عشر على التوالي، أفقدت القلب المفجوع بفداحة عجز الإنسانيّة عن وقف تغول طغاة العالم القدرة على احتمال المزيد. ولم يتبق من الروح المثقلة بالأحزان لكثرة فقدان الأحبة سوى الفتات.
عرفت الإعلامي المتميز إيفان جاريلوف في منتصف سبعينيات القرن العشرين عندما كنت طالبة دراسات عليا في جامعة الاقتصاد الوطني والدولي(معهد كارل ماركس سابقا) في صوفيا/ عاصمة جمهورية بلغاريا الشعبية. ورئيسة للاتحاد العام لطلبة فلسطين في بلغاريا. ومن متابعي برنامج المعلومات السياسية الأشهر في التلفزيون البلغاري “بانوراما”. الذي تميز عن البرامج التلفزيونية الأخرى بالتنوع والموضوعية والجرأة. في زمن التزام الإعلام بالرؤية الحزبية الرسمية وغياب التعددية وانعدام النقد.
فكان الإعلامي البارز إيفان جاريلوف لافتا في سعيه للبحث عن الحقيقة. ولم يجعل اهتمامه المهني ببلده وشعبه جل همه رغم استئثار ذلك بالأولوية. بل بدا شديد الحرص على إحاطة شعبه بالتطورات والأحداث العالمية مخترقا الستار الحديدي. وكثيرا ما كنا نراه في الفعاليات والمناسبات الوطنية التي يقيمها الطلبة الأجانب الدارسين في بلغاريا، وجلهم من بلدان العالم الثالث الساعية للتحرر من الاستعمار الأجنبي، والتي كانت، آنذاك، تحظى باهتمام ودعم المعسكر الاشتراكي، وتستقبل دوله الآلاف من الطلبة في الجامعات والمعاهد العليا في مختلف التخصصات العلمية للتعلم مجانا.
تميز إيفان جاريلوف بالانفتاح على الاختلاف، ورفض القبول بالمسلمات التي يمليها التنافس الاستقطابي والحرب الباردة التي عاصرها في مقتبل عمره. فخبر مبكرا معاناة الوقوف بين معسكرين، حيث يبحث الشباب في المعسكر الشرقي عن المزيد من الحرية. فيما يبحثون في المعسكر الغربي عن المزيد من العدالة الاجتماعية. ويوحدهم سويا الاحتجاج على الواقع القائم.
اجتذبته مهنة الصحافة مبكرا، إذ وجد فيها مكانا للتعبير عن أفكاره، وفرصة للبحث عن الحقيقة عبر الزيارات الميدانية لمراكز الصراع، غير مكترث بالمخاطر. مدركا أنها مهنة شاقة تستوجب النضال من أجل الوصول إلى الحقيقة والتبصير بها. وواعيا بأن على الصحفي الجاد التضحية باستقراره وراحته ومصالحه وأحيانا بنفسه في سبيل البحث عنها، ونشرها للناس للنهوض بوعيهم المعرفي.
وبعد تخرجه من الجامعة في أواخر ستينيات القرن العشرين، وعمله في الصحافة المكتوبة، وانتقاله للتلفزيون في مطلع السبعينيات. حظيت تغطية الصراعات المحتدمة آنذاك في كمبوديا، وفيتنام، وفلسطين، ولبنان وقبرص باهتمامه. فكان أول إعلامي أجنبي يدخل كمبوديا بعد تحررها، وأعد تقريرا مصورا عنها. وغطى الأزمة القبرصية. وزار لبنان أثناء الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات. وتصادف، آنذاك، أن كنت ضمن آلاف الطلبة الفلسطينيين الذين تركوا مقاعد الدراسة للدفاع عن الثورة الفلسطينية، التي كانت تواجه خطر التصفية في آخر معاقلها في المحيط الجغرافي لفلسطين. بعد تحالف النظام السوري (الذي كانت قواته في لبنان تشكل القوة الرئيسية في قوات الردع العربية التي أوكلت لها جامعة الدول العربية مهمة إنهاء الحرب الأهلية) مع القوى الانعزالية اليمينية ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية، وتم أثناءها اغتيال الزعيم الوطني التقدمي كمال جنبلاط.
التقيته في مركز الإعلام الخارجي الفلسطيني في بيروت الغربية، إذ كان بصدد إعداد فيلم وثائقي عن الثورة الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان، ويحاول ترتيب زيارات لقواعد الفدائيين في الجنوب اللبناني على الحدود مع الكيان الصهيوني. وللمخيمات الفلسطينية. وأخرى لخطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تدور الاشتباكات بين تحالف الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية والثورة الفلسطنية من جهة، والقوى الانعزالية اليمينية اللبنانية من جهة أخرى.
ولمعرفتي باللغة البلغارية فقد رافقتهم في زياراتهم الميدانية. في الزيارة الأولى لمواقع الفدائيين الفلسطينيين في بلدة الخيام الجنوبية الحدودية، استقبلنا قائد المنطقة عبد المعطي السبعاوي في الموقع الأمامي، حيث يمكن رؤية جنود جيش العدو الصهيوني خلف الحدود بالعين المجردة. حرص إيفان جاريلوف على الإلمام بطبيعة حياة الثوار عبر معايشتهم والتحاور المباشر معهم. ومن جهتهم فرحوا بزيارته واهتمام التلفزيون البلغاري بالقضية الفلسطينية العادلة، وبدعم دول المعسكر الاشتراكي لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير وإقامة الدوله الفلسطينية المستقلة. وأبدو امتنانهم لإقامة علاقات ديبلوماسية بين الدول الاشتراكية ومنظمة التحرير الفلسطينية، واستقبال آلاف الطلبة الفلسطينيين -الذين ضاق بهم وطنهم العربي الكبير- للدراسة في جامعات الدول الاشتراكية، وإعداد آلاف الكوادر العلمية والنقابيّة.
وبعد انتهاء التصوير والمقابلات، شارك إيفان جاريلوف وزميله المصور الفدائيين طعام الغداء المكون من المعلبات تحت إحدى الأشجار. ولم نكد نخطو بضعة أمتار لشرب الشاي الذي أعده الفدائيون على الحطب، حتى سقط صاروخ إسرائيلي على المكان الذي تناولنا فيه الغداء وغادرناه للتو، فنجونا من الموت بأعجوبة.
وفي طريق عودتنا لبيروت سألت إيفان جاريلوف ما الذي يدعوه للمخاطرة وهو غير مضطر مثلنا لها. فأجابني بابتسامته التي لا تفارقه في أحلك اللحظات: “الصحافة مهنة البحث عن الحقيقة، وهي لذلك محفوفة بالأخطار، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمستضعفين من أصحاب الحق، أفرادا وجماعات وشعوب. وعليه فإن إيصال الحقيقة لأكبر قدر من الناس يستحق العناء”.
في ظهر اليوم التالي قمنا بزيارة لحي الطيونة في الضاحيه الجنوبيه ببيروت، حيث تحتدم الاشتباكات بين الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وبين القوى الانعزالية اليمينية اللبنانية. ولم نكد نقترب من أحد المباني حتى انهالت القذائف من مختلف الاتجاهات. فاحتمينا بالطابق الأرضي للمبنى، واتضح أن القتال بين الأطراف كان يجري في محيط المبنى وداخله بين الطوابق. احتفظ إيفان بهدوئه، ووجه المصور لتوثيق المعركة. كانت هذه تجربتي الأولى في موقع قتال، رغم معايشتي منذ الطفولة للحروب المتتالية على بلادنا وشعوبنا. ويبدو أنها كانت، كذلك، بالنسبة للمصور المرافق لإيفان، فاصفر وجهينا وتجمدت أقدامنا من الخوف. فيما احتفظ إيفان بهدوئه، وأمسك بكلانا بعد أن هدأ الاشتباك قليلا للخروج من المبنى. لفتني ثباته ورباطة جأشه، ولولا شجاعته ومساعدته لي وللمصور لما كنا قادرين على الحركة والمغادرة بنجاح تحت القصف.
في اليوم الثالث كان إيفان جاريلوف، الذي حرص على لقاء طرفي الصراع في الحرب الأهلية اللبنانية لاستكمال مهمته الصحفية الاستقصائية، قد رتب -عبر السفارة البلغارية- زيارة لمركز حزب الكتائب في منطقة الصيفي ببيروت الشرقية. للقاء الشيخ بيار الجميل، رئيس الحزب الذي كان يقود المعارك ضد الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. وسألني إن كنت أرغب في مرافقته كعضو في الوفد التلفزيوني البلغاري. وكان قد أعد الاسئلة مترجمة للغة العربية، واشترط علي عدم حمل وثيقة إثبات شخصية وعدم التحدث، لخطورة كشف هويتي. ترددت قليلا – إذ كان الذبح على الهوية سائدا آنذاك، وكان الفلسطيني يذبح على الحواجز إن تعذرعليه اجتياز اختبار اللهجة اللبنانية-. لكن ثقتي بقدرته على حمايتي دفعتني للمجازفة. فتغلبت على خوفي ورافقتهما.
مرافقتي لإيفان جاريلوف في مهمته الصحفية الاستقصائية، وتعرفي به عن كثب، أنضجت وعيي السياسي بأهمية الصحافة والإعلام ودورهما الحيوي في التنوير المعرفي.
ومنذ نجاتنا من الموت الذي بدا وشيكا مرتين، ارتبطنا بصداقة خاصة، تعززت كثيرا بعد عودتي وزوجي من لبنان لاستئناف الدراسة في صوفيا، فعرفنا على زوجته وتوأم روحه دونكا استانبوليسكا، الصحفية الجميلة اللامعة في الإذاعة، والمتميزة صوتا، وعقلا، وفكرا، وثقافة. فباتا عائلتنا الأقرب في بلغاريا، البلد الذي احتضننا ووفر لنا فرصة التعلم في جامعاته وعاملنا كأبنائه. وكان الشعب البلغاري الطيب المضياف نعم الأهل لنا، ولعموم الطلبة الفلسطينيين والعرب والأجانب القادمين من بلاد تسعى للانعتاق من الاستعمار والظلم.
تميز إيفان جاريلوف بنبله وصدقه وإنسانيته وتواضعه الشديد وشجاعته الاستثنائية وتفانيه واحترامه للعقل، وعدم التواني عن مواجهة الأخطار لنقل الحقيقة، ما أكسبه مصداقية وحب وتقدير الشعب البلغاري الذي لقبه بأيقونة الإعلام.
شغلتنا الحياة وهمومها، فلم ألتقه منذ سنوات، لكنه كان على الدوام شديد الحرص على تتبع أخبار أصدقائه الفلسطينيين الكثر، للاطمئنان عليهم في المحن المتكررة.
وكنا حريصين على متابعة أخباره ونجاحاته الكثيرة ، ودوره الإعلامي الريادي المتميز في تمكين بلغاريا من العبور الآمن للمرحلة الانتقالية الأصعب بعد انهيار الثنائية القطبية وتفكك المعسكر الاشتراكي. فبقي على عهده مؤمنا بأن الإعلام قوة عظمى في تشكيل الوعي المعرفي الفردي والجمعي. وبأن على الإعلامي مساعدة الناس وتبصيرهم بسبل تغيير واقعهم، وتنويرهم بمستلزمات البلوغ الآمن نحو المستقبل.
وظل على انشغاله المهني والشخصي بالقضية الفلسطينية والفلسطينيين. وبقي وفيا لقناعاته الفكرية والسياسية. فلم يحذ حذو بلاده وسائر الدول الاشتراكية في انعطافتها الجذرية بعد انهيار الثنائية القطبية وتفكك المعسكر الاشتراكي. ولم يخف امتعاضه من الانتهازية وانقلابهم على القضية الفلسطينية سعيا لتأكيد الهوية الأوروبية الأطلسية، بالتودد للكيان الصهيوني الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية.
وحافظ إيفان جاريلوف على مواقفه المبدئية، وامتلك الشجاعة والجرأة في انتقاد انعدام حياد إعلام بلاده تجاه معاناة الشعب الفلسطيني. ووقف ضد حرب الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة، في اتساق مع مواقفه المبدئية ومسيرته المهنية الطويلة التي ما تزال آثارها المكتوبة والمرئية قيد التداول العام. واستحق عليها لقب أسطورة الإعلام.
كما تجسد اهتمامه الإنساني بالفلسطينيين بتبنيه للفتى الفلسطيني أحمد المليجي. الذي التقاه طفلا عام 1979 في مخيم برج البراجنة أثناء تصويره لفيلم وثائقي للتلفزيون البلغاري حول الحرب الأهلية. ولفت نظره آنذاك بذكائه. ثم بعد ثلاث سنوات رأى صورة أحمد في مجلة تايم الأميركية وهو يحمل بندقية كلاشينكوف أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
وعندما عاد إيفان جاريلوف للبنان لإكمال الفيلم، بحث عن أحمد مجددا، وكان قد بلغ الثالثة عشرة من عمره. وعلم إيفان باستشهاد والديه، فأبدى اهتماما باصطحابه إلى بلغاريا، خصوصا وقد ضاقت السبل باللاجئين الفلسطينيين في لبنان بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية. فتداول مع أقارب أحمد فكرة رعايته وتبنيه. وبعد تردد وافقوا لضيق الخيارات، ولثقتهم بإيفان الإنسان. فتحمل عناء المخاطرة بإخراج الفتى الفلسطيني من لبنان في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، للاضطرار للمرور بمناطق تخضع لسيطرة الكتائب، الذين لن يتورعوا عن قتل أحمد لو علموا بأمره. ثم المرور برا عبر سوريا وتركيا. وعندما وصلا بلغاريا، بدأ أحمد بتعلم اللغة البلغارية. ثم أكمل تعليمه الثانوي بمدارسها، والتحق بكلية الطب. وبعد تخرجه، لم تنجح محاولته للعودة إلى لبنان لتعذر ممارسته لمهنة الطب- التي تندرج ضمن 96 مهنة محظورة على اللاجئين الفلسطينيين. فساعده إيفان جاريلوف للعمل في ستارسيفو حيث استقر وتزوج من فتاة لبنانية، وأسميا طفلهما الأول إيفان تيمنا براعيه ووالده بالتبني. وأسميا طفلتهما الثانية إيفا. لم يفرق إيفان بين أبنائه البيولوجيين وابنه بالتبني. وأحس بالثكل عندما رحل أحمد بسبب مرض سرطان الدم . وكتب في 12/3/2018 على صفحته بالفيسبوك “هذا الصباح توفي ابني بالتبني أحمد، الفتى الفلسطيني الذي استقدمته عام 1982من لبنان. وبناء على رغبة زوجته رجاء، سيدفن الدكتور أحمد المليجي في مسقط رأسه بلبنان.
ترك إيفان جاريلوف إرثا ثريا، فأصدر العديد من الكتب وثق فيها رحلاته وتجاربه ومواقفه. ومن أهم إصداراته:
- “همينغواي لم يكن هنا أبدا”.
- “أتيلا في مواجهة أفروديتا” عن القضية القبرصية وثق فيه متابعاته لمجرياتها.
- “رسائل لم ترسل إلى مرغريتا”.
- “عش الكراهية ” حول الصراع العربي-الإسرائيلي
- “روك آند رول وتجسّس.. والفالس الأخير”.
- “هنا والآن”.
رحل أيقونة الإعلام وعميد الصحافة البلغارية إيفان جاريلوف صباح 3/9/2024.
رحل الإنسان النبيل المثقل بأحزان فراق أحبته: زوجته وابنه البيولوجي وابنه بالتبني. ورغم أحزانه واصل العطاء، واحتفظ بذات الشغف بمهنة الصحافة كما كان في مقتبل عمره. وتمنى في حفل توقيع أحدث كتبه بتاريخ 14/5/2024، ” أن يمهله القدر بضع سنوات أخرى كي يتمكن من القيام ببعض الأشياء الإضافية فقال: “لدي مهمة – عامة وشخصية، ويجب أن أحققها بأفضل ما أستطيع”.
لروحك الطاهرة السكينة والسلام، ولمسيرتك العطرة وإرثك الثري الخلود.
تغمدك الله أيها الأخ الغالي بواسع رحمته ومنح ابنتك وزوجة ابنك أحمد وأبناؤه أحفادك وعائلتك وأصدقاؤك وأسرة الإعلام والصحافة البلغارية وعموم الشعب البلغاري، وأصدقاؤك ومحبوك الفلسطينيينون الكثر الصبر والسلوان.
ستبقى نموذجا إنسانيا وإعلاميا ملهما للأجيال البلغارية والفلسطينية ولجميع الساعين لبلوغ الحرية والعدالة على امتداد العالم.
سبتمبر 4, 2024