هيمنة الإيديولوجية الإمبريالية في “الغرب الإستعماري”!
الطاهر المعز
مقدمة:
يَشْعُرُ المُغتربون العرب، وخصوصًا التّقدُّمِيُّون منهم، في أوروبا وأمريكا الشمالية بعمق الخلافات مع معظم الأصدقاء التّقدّميين الأوروبيين والأمريكيين ومنظماتهم السياسية والنقابية والأهلية، كلما تعلّق الأمر بقضايانا العربية، وخصوصًا بشأن فلسطين، أو قضايا الحرب والسّلم والدّيمقراطية والمُساواة وما إلى ذلك، وظهرت هذه الخلافات بمناسبة العدوان الصهيوني/الإمبريالي الذي لا يزال مستمرًّا أثناء كتابة هذه الفقرات ( 20 تشرين الأول/اكتوبر 2024) ضد الشّعوب العربية (فلسطين ولبنان وسوريا واليمن) وكذلك ضد الشعوب الإيرانية، وبالنسبة للإشتراكيين والشيوعيين العرب فإن هذه الخلافات لم تنشأ فجأةً بل تُشكّل عودةً إلى الوراء وإلى النّقاشات الحادّة بين أطراف اشتراكية/شوفينية وأطراف ثورية وأُمَمِيّة داخل الإشتراكية الدّولية الثانية أو “الأُمَمِيّة الثانية” وأدّت الخلافات إلى تأسيس الأممية الثالثة…
تتضمن هذه الفقراتُ محاولةً لتفكيك جوهر الخلافات بين عدد من مناضلي دول “الجنوب” ورفاقهم في دول “الشّمال” بشأن قضايا الإمبريالية والصهيونية وطبيعة الصّراع، واستعادة بعض أوجه الشبه بين الأحداث والنقاشات والخلافات خلال بعض المراحل التاريخية، منذ تَطوّر الرأسمالية إلى مرحلة الإحتكار والإمبريالية، مع الإشارة إلى إنني أعتبر “العولمة” حلقة من حلقات الإمبريالية وليست مرحلة أو حقبة يُسميها البعض “ما بعد الإمبريالية”، وفي هذا النّص تعليق على ذلك ضمن نقد كتاب الإمبراطورية الذي نشره أنطونيو نيغري ومايكل هاردت…
شكّلت القضية الفلسطينية نقطة خلاف وانقسام مستمر ومصدر اختلاف في المواقف بين الثوريين والاشتراكيين والتقدميين من الدول الإمبريالية الذين يعارضون “رفاقهم” من البلدان المهيمنة، وكانت هذه الخلافات صارخة بشأن الحروب الإمبريالية: يوغوسلافيا والعراق وأفغانستان وليبيا وسوريا ومالي وأوكرانيا، ناهيك عن فلسطين أو لبنان، كما شكّلتْ هذه الخلافات – وخصوصًا بعد اعتراف الإتحاد السوفييتي بالكيان الصهيوني – فُرْصَةً لتشويه الفكر الإشتراكي ونَبْذ جوهر الشيوعية وعَزْل المناضلين الشيوعيين، سواء كانو من أعضاء الأحزاب الموالية للدّولة السوفييتية أو من خارجها.
لم تظهر هذه الخلافات، بين شيوعيي الدّول الإمبريالية وشيوعيي “دوَل “الأطراف” فجأةً خلال السنوات الأخيرة، بل هي جزء من «تراث تاريخي» كان (ولا يزال) حاضرا في الحركات الشيوعية والاشتراكية والتقدمية العالمية.
تُمَثِّل هذه الفقراتُ محاولةً للرصد التاريخي لهذه الاختلافات السياسية والعقائدية، ويحاول هذا النص تتبع بعض أهم المراحل التاريخية لهذه الخلافات، منذ نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، عند نَشْر “البيان الشّيُوعي”، وحتى يومنا هذا، والوقوف على بعض الخلافات التي تخص جوهر الصراع العربي الصهيوني، الذي عاد إلى السّطح خلال السنة التي مَرّت، وظهرت في الدّول الإمبريالية بعض البيانات والشعارات التي تُشير إلى النكبة والإبادة وإلى “جوهر الصّراع بين الكيان الاستعماري الصهيوني ومنظمات المقاومة الفلسطينية من أجل التحرير الوطني لفلسطين التي أصبحت مستوطنة صهيونية”، وبداية ابتعاد بعض القوى التقدمية عن النهج الذي كان سائدًا والمتمثل في إنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وإنكار العلاقة العضوية بين الصهيونية والإمبريالية!
لَمحة تاريخية
كَتَبَ فريدريك إنغلز، في رسالته إلى كارل كاوتسكي سنة 1882، بشأن البلدان المستعمَرَة: «أما بالنسبة للمراحل الاجتماعية والسياسية التي يتعين على هذه البلدان أن تمر بها قبل الوصول إلى التنظيم الاشتراكي، فلا يمكننا اليوم أن نكتفي بالافتراضات، وهناك شيء واحد مؤكد: لا يمكن للبروليتاريا المنتصرة أن تفرض أي نعمة من أي نوع على أي دولة أجنبية، وإن فَعَلَت فإنها تُقَوِّضُ بذلك انتصارها…”
منذ ثورات سنة 1848 (في أوروبا)، طَوَّرَ ماركس وإنغلز وجهة نظر جدلية للتاريخ واستكشفا العلاقة الضعيفة في أوروبا بين الإمكانات الثورية للطبقة العاملة والأرستقراطية العمالية، ويتضح هذا من خلال نشاطهما ضمن الرابطة الشيوعية، التي كُتب لها البيان الشيوعي ونُشر سنة 1848، وكانت الرابطة الشيوعية تضم العمال والحرفيين المهاجرين الألمان في فرنسا، وخاصة الخياطين الذكور الذين تطورت في أوْساطِهِم الأفكار الشيوعية تدريجياً، ونشروها بين العُمّال في ألمانيا، مما شكّل شرارة إطلاق أول حركة عمالية شيوعية في ألمانيا، فضلاً عن “أول حركة عمالية أممية على الإطلاق”.
كانت ألمانيا، في ذلك الوقت، مركز الثورة الشيوعية العالمية، قبل توحيد ألمانيا – تحت جناح بروسيا بعد انتصار بيسمارك على الجيش الفرنسي – التي كانت “بلد الحرف والصناعة المحلية القائمة على العمل اليدوي”، وذَكَرَ ماركس وإنغلز في البيان الشيوعي أن “الشيوعيين يحولون اهتمامهم بشكل رئيسي إلى ألمانيا، لأن هذا البلد على أعتاب ثورة برجوازية… إن الثورة البرجوازية في ألمانيا لن تكون سوى مقدمة لحركة بروليتارية ثورية، سوف تَلِي الثورة البرجوازية على الفور”، غير إن التاريخ لم يتقدّم بهذا الشكل الذي تَصَوَّرَهُ كارل ماركس وفريدريك إنغلز…
أما الطبقة العاملة الإنغليزية، ورغم ظروفها المادية المتقدمة وتاريخها النِّضالي الطويل، فلم تبرز كقوة رائدة في الحركة العمالية الدولية اللاحقة، ولاحظَ ماركس في رسالته سنة 1870، أن الإمكانات الثورية للعمال الإنغليز كانت محدودة للغاية بسبب استعمار بريطانيا لأجزاء عديدة من العالم، أقربها أيرلندا، وبفعل التحالف الاستعماري بين العمال الإنغليز والرأسماليين، وَوِفْقًا لماركس: “إن العامل الإنغليزي العادي يكره العامل الأيرلندي باعتباره منافسا يخفض مستوى معيشته. أما العامل الإيرلندي فهو لا يعتبر نفسه عضوا في الأمة الحاكمة… وهذا العداء هو سر عجز الطبقة العاملة الإنغليزية رغم عراقة تنظيمها، وهو في ذات الوقت أحد عوامل قُوّة الطبقة الرأسمالية ( فَرِّقْ تَسُدْ) التي تُخَطّط لاستمرار تقسيم الطبقة العاملة…” كما يُشير كارل ماركس إلى فِئَة الأرستقراطية العمالية الإنغليزية التي بدأت في الظهور مع الإمبريالية وجَرّت الطبقة العاملة إلى التحالفت مع “برجوازيتها” ضد شُعُوب البلدان المُسْتَعْمَرَة، بهدف الحفاظ على الحق في التنظيم النقابي الذي يضمن الرّخاء (النّسْبِي) وتحسين الأجور الحقيقية وظروف العمل، وتوسيع حق الاقتراع، وأَدّى كل ذلك إلى تعزيز التحالف السياسي بين الرأسماليين والنقابات والأحزاب التقليدية، كما أدّى إلى الإتفاق الضّمني على حصول العُمّال في الدول الإمبريالية على بعض ثمار الأرباح الإمبريالية الفائقة الناتجة عن تحويل فائض البلدان المُسْتعْمَرَة، (ثم بلدان ما يُسمّى العالم الثالث)، وعن الإستغلال المُفرط للعمال المهاجرين…
شرح فريدريك إنغلز أسباب وآليات المواقف المُحَافِظَة للنقابات والعمال المُنَظَّمِين بصفوفها، في الطّبعة الأولى لكتابه “حالة الطبقة العاملة في إنغلترا” سنة 1845: “إنهم يشكلون فِئَة أرستقراطية داخل الطبقة العاملة؛ لقد تمكنوا من فرض موقف مريح نسبيًا على أنفسهم ويقبلونه باعتباره نهائيًا…”، وَطَوَّرَ إنغلز هذه الفكرة (أو هذه الملاحظة) في مقدمة طبعة 1892، وفي رسالته إلى أوغست بيبل سنة 1883، حَذَّرَ إنغلز قائلاً: “لا تنخدع بالاعتقاد بأن هناك حركة بروليتارية حقيقية تحدث هنا (في إنغلترا)… لن تظهر هنا حركة عمالية حقًا إلا عندما يفقد العُمّال المزايا التي تمَتَّعُوا بها لقاء مشاركتهم في الاحتكار الاستعماري والسيطرة على السوق العالمية…” ثم يشرح كيف بدأت الطبقة العاملة الإنغليزية في مساندة الحزب الليبرالي الذي اعترف بالنقابات وحق الإضراب، وأَقَرَّ ظروف عمل أكثر إنسانية، وحق التصويت للطبقة العاملة، لكن هذه المزايا اقتصرت على العمال الإنغليز ولم تنطبق على المستعمرات، وحصل نفس الأمر في فرنسا ومُسْتَعْمَراتِها.
أشار فلاديمير لينين إلى كتابات ماركس وإنغلز هذه في ما كتَبَهُ عن الإمبريالية وعن التغييرات في مواقف قادة الطبقة العاملة في ألمانيا وإنغلترا، ويلاحظ: «مع ظهور إنغلترا وألمانيا كقوتين إمبرياليتين كبيرتين، تغيرت الحركات الاشتراكية الألمانية والإنغليزية أيضًا بشكل كبير، ومع ذلك، فقد دعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني لفترة طويلة وجهة النظر الثورية في الماركسية، قبل أن يقوده بيبل و كاوتسكي، اللَّذَيْن كانا على رأس التيار السّائد والأطروحات التحريفية التي ساوت بين البرامج الإصلاحية والثورية، ودعمت الخلط بين الثورة والثورة المُضادّة، واعتقد الحزب الإشتراكي الدّيمقراطي الألماني إن انهيار الرأسمالية وشيك، ولكنه كان راضيا بالمنافسة على مقاعد الرايخشتاغ في انتظار اليوم العظيم للثورة الاشتراكية، وبذلك أصبح النقابيون في الحزب قوى إصلاحية قوية، وَسَادَتْ بينهم تدريجيا نظريات ومواقف “الحياده السياسي”، ولم يُطَوِّر الحزب نظرة أو فكرة مُوَحّدة عن ماهية الإشتراكية، وتَمَيّز أعضاء الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني بنقص التكوين الماركسي، بينما استمر عدد الأشخاص الذين يصوتون لصالح الاشتراكية في النمو، وعملت الرأسمالية الألمانية على إخماد الرّوح الثورية للطبقة العاملة من خلال تحسين ظروف العمل قبل الحرب العالمية الأولى، وحصل أعضاء الحزب الإشتراكي الدّيمقراطي الألماني على عدد من المزايا، وترافق هذا التّحسّن في ظروف العَيْش مع ترويج الإيديولوجية الرجعية في الإعلام والقصص والروايات التي ساهمت في تسميم عُقُول قسم هام من العُمّال – وخصوصًا فئة الأرستقراطية العمالية – وأبنائهم بالإيديولوجية الرأسمالية وتَرْويج قصص الرحلات وقصص الحرب، والقصص الإثنوغرافية الغريبة التي تُمَجِّدُ التوسع الاستعماري الألماني.
كان كارل برنشتاين ( 1850 – 1932)، نائب الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الرايخشتاغ، يمثل الجناح اليميني للحزب واعتبر (سنة 1900) الإمبريالية شيئًا جديدًا – وتَقَدُّمِيًّا – موازيًا للرأسمالية، وكرّر ذلك سنة 1912، حيث تَمَسّكَ برأيه الذي لا يزال يعتبر الإمبريالية “تقدمية بشكل أساسي على الرغم من ارتباطها بمصالح رأسمالية معينة”، وفقًا لعبارات برنشتاين نفسه، واعتبر إن الإمبريالية البريطانية ديمقراطية، لذا فهي تستحق المُساندَة، في حين كانت الإمبريالية الألمانية غير الديمقراطية بقيادة فيلهيلمينا رجعية ومُحافظة، ودافَعَ برنشتاين عن “السياسة الاستعمارية الاشتراكية” الشهيرة، والتي أصبحت قضية مثيرة للجدل إلى حد كبير في المؤتمر الإشتراكي الدّولي الثاني في شتوتغارت سنة 1907، واستنكَرَ لينين هذا “التّحَوُّل المُحافظ والانتهازي الواضح للديمقراطية الاشتراكية الألمانية”.
اتسم مندوبو أوروبا الغربية إلى هذا المؤتمر الدولي الثاني بنزعتهم المحافِظَة والتَّحْرِيفية، وكان الإتّجاه التحريفي والانتهازي يُمثّل الأغلبية بين أعضاء المؤتمر وقدموا مشروع قرار يتضمّن “إن مزايا المستعمرات بالنسبة للطبقة العاملة مبالغ فيها ولذلك لا ينبغي أن يرفض مُؤتَمَرُنا الاستعمار من حيث المبدأ لأنه يمكن أن يكون قوةً حضاريةً”، وعلق فلاديمير لينين بأن مفهوم السياسة الاستعمارية الاشتراكية (لبرنشتاين وآخرين) كان «ارتباكًا مَيْؤُوسًا منه»، وأوضح “إن الاشتراكية لم ترفض أبدًا الدعوة إلى الإصلاحات في المستعمرات أيضًا؛ لكن هذا لا يمكن أن يكون له أي علاقة بإضعاف موقفنا المبدئي ضد الغزو، وإخضاع الأمم الأخرى، والعنف والنهب، الذي يشكل أساسَ السياسة الاستعمارية” كما اعتبر لينين “هذا التراجع الكبير عن المبادئ الاشتراكية أمرًا فَظِيعًا”، لكن عادت هذه النظريات التي سادت “الأممية الثانية”، إلى الظهور بعد عدة عقود، في كتابات مُفكِّرين وباحثين مثل وارن وبرينر.
خلافات بشأن دور الإمبريالية في تأبيد التّخَلّف
كان بيل وارن (1935-1978) شيوعيًا بريطانيًا، عضوًا في الحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى، ثم ساهم لاحقًا في مجلة اليسار الجديد ( New Left Review ) وفي سنواته الأخيرة كان عضوًا في المنظمة الشيوعية البريطانية والأيرلندية، ومن أهمّ مُؤَلّفات بيل وارن كتاب “الإمبريالية رائدة الرأسمالية” ونُشِرَ هذا التحليل الماركسي غير التقليدي سنة 1980 أي بعد وفاته، ولا يزال قيد المناقشة، وأهم ما ورد به: رَفْضُ “وارن” حجة كتاب لينين الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، بأن التطور الرأسمالي خارج أوروبا لم يعد ممكنًا، واعتبر أنه يستعيد وجهة النظر الأصلية لماركس وإنغلز، وخاصة فيما يتعلق بنتائج حكم بريطانيا في الهند: أي أن الإمبريالية تلعب دورًا تقدميًا في تعزيز انتشار الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، وهو شرط أساسي للاشتراكية ( وفق زعم بيل وارن) وقد شَبَّهَ بعض المعلقين أفكار وارن حول الرأسمالية، وخاصة اعتقاده بأن إنشاء سوق عالمية مطلوب لإنشاء مجتمع شيوعي، بأفكار مفكرين آخرين، مثل الحزب الشيوعي الثوري ونايجل هاريس.
يجسد بيل وارن شكلاً من أشكال التحريفية التي تشوه سمعة مساهمة لينين في تحليل الإمبريالية باعتبارها مرحلة في تطور الرأسمالية التي تعيق تطور المستعمرات أو البلدان الخاضعة للهيمنة، ويدعي وَارِن أن انتشار الرأسمالية على نطاق عالمي هو عامل إيجابي يؤدي إلى انتشار الشيوعية!
نشر بيل وارن، سنة 1973، مقالة مطولة بعنوان “الإمبريالية والتصنيع الرأسمالي” في مجلة اليسار الجديد ( New Left Review) وَسَعَى وارن، من خلال هذه المقالة، إلى تحدي وجهة النظر المناهضة للإمبريالية القائلة بأن الإمبريالية، وَتوسع النمط الرأسمالي على نطاق عالمي، قد خَلّقَت التبعية والتخلف في بلدان “المُحيط” ( أو “الأطراف” )، ويَدّعِي وارن أن توسع الرأسمالية والإمبَرَيُّالية يُشكّل مصدرًا للتقدم الصناعي والإجتماعي في تلك البُلْدان وكَتَبَ: “تشير الملاحظات التجريبية إلى أن احتمالات التنمية الاقتصادية الرأسمالية الناجحة [بما في ذلك التصنيع] لعدد كبير من البلدان المتخلفة الكبيرة هي جيد جدًا”، وادّعى بيل وارن «إن أطروحة لينين ونظريته العامة للإمبريالية كانت معيبة من الناحية النظرية وغير دقيقة تاريخيًا».
كان بيل وارن الرَّمْزَ الأكثرَ شهرةً لهذه المدرسة التحريفية، التي يستشهد ممثلوها بمشاريع التصنيع الضخمة التي نفذتها بعض الأنظمة المحمية من الإمبريالية مثل تايوان أو كوريا الجنوبية، ويؤكد وارن أن التصنيع في “العالم الثالث” تم تمويله من خلال رأس المال المحلي، وكان مُسْتَقِلًّاً عن رأس المال الأجنبي، ويشمل هذا التطور الصناعي ( بحسب بيل وارن وأَمْثَاله) مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك التقنيات المتقدمة، مما سمح بتطور القوى الإنتاجية، وبالتالي اختفاء التفوق التكنولوجي “الغربي”، ويَتّفق بيل وارن مع أطروحة المنظمات التروتسكية القائلة بأن “النضال ضد الإمبريالية ليس سوى ذريعة للتحالف مع البرجوازية المحلية – المَوْصُوفة “وطنية” – وذريعة لإهمال الصراع الطبقي في بلدان العالم الثالث”، وتتجاهل هذه الأطروحات تحاليل ودراسات رُوّاد”مدرسة التّبَعِية”، ومن بينهم أرغيري إيمانويل (1911 – 2001) الذي كَتَبَ ردًا على وارن، مجادلًا بأن الأخير “أغفل الفارق الكبير في التصنيع والميكنة ( أو المَكْنَنَة) الزراعية بين الدول الغنية والعالم الثالث وأن تطور الرأسمالية قد أنتج فجوة مستمرة ومتنامية بين الدول الغنية ( المَرْكَز) والدول الفقيرة (الأطراف)… ” وقد افْتَرَضَ بيل وارن أن الإمبريالية تدمر نفسها بنفسها أثناء عولمتها، بينما يؤكد أرغيري إيمانويل أن الإمبريالية تعيد إنتاج نفسها بدلاً من التدمير الذاتي، كما ادعى وارن…
أشار ديفيد سلاتر لاحقًا إلى عدد من نقاط الضعف في أطروحة وارن، بما في ذلك مَدِيح المركزية الأوروبية “لِدَوْرِها التاريخي الإيجابي”، وقبول الاستغلال الرأسمالي، وأشار إلى القراءات الانتقائية للغاية للنصوص الماركسية.
بَيَّنَ فيليب ماكمايكل و جيمس بيتراس و روبرت رودس، في رَدٍّ آخرَ، أن هناك القليل من الأدلة على التصنيع المستقل في “الجنوب العالمي”، استنادًا إلى حركة رأس المال والتجارة غير المتكافئة، وإلى أزمة ميزان المدفوعات في دول “العالم الثالث”، واعتبروا إن معدل النمو في البلدان المتخلفة – في سياق هيمنة الإمبريالية على الإقتصاد العالمي – هو وَهْم ومُغالَطة، لأن اقتصاد هذه البُلْدان يعتمد على قطاعات هشة ومتقلبة ذات قيمة مضافة منخفضة، مثل تصدير المعادن والمواد الزراعية الخام ( غير المُصَنّعة) والسياحة، والإستثمارات الأجنبية وغيرها من العوامل التي لا تسمح بتحقيق التنمية المستدامة، لأنها رهينة الطلب الخارجي أو الإستثمارات الأجنبية أو تقلبات المناخ (الزراعة)…
في ختام هذا الفصل من تقديم بعض الأطروحات المتصارعة – داخل التيارات الإشتراكية – بشأن الإمبريالية، يمكننا التأكيد على أن الدول الغنية أصبحت أكثر ثراء (من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي) بين سَنَتَيْ 1960 و2015، فيما أصبحت الدول الفقيرة أكثر فقرا، حيث كان متوسط دخل الفرد في أغنى عشرين دولة أعلى بمقدار 32 مرة من متوسط دخل أفقر عشرين دولة سنة 1960 وتوسّع الفارق إلى 123 مرة سنة 2015، ويؤدي تطور “المركز” إلى تخلف “الأطراف”، من خلال عملية النهب ونقل الثروة من “الجنوب” إلى “الشمال”. .
تركزت أبحاث روبرت بول برينر (من مواليد 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1943) وهو مؤرخ اقتصادي أمريكي، ومدير مركز النظرية الاجتماعية والتاريخ المقارن بجامعة كاليفورنيا، ورئيس تحرير المجلة الاشتراكية “ضد التيار” ( Counter Punch)، وعضو هيئة تحرير “مجلة اليسار الجديد” ( New Left Review )، على التاريخ الأوروبي الحديث، والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والديني، والتاريخ الزراعي، والنظرية الاجتماعية والماركسية، وساهم في النقاش حول ظروف “الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية”، مؤكدا على أهمية تحول الإنتاج الزراعي في أوروبا وخاصة في المناطق الريفية في إنغلترا، وعارض النّظرية القائلة إن السبب الرئيسي للتّحَوُّل والإنتقال من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى الرأسمالي هو نمو حجم التبادل التجاري الدّولي، وساهم في إثراء النّقاش سنة 1976، من خلال مقالته بعنوان “بنية القطاع الزراعي والتنمية الاقتصادية في أوروبا ما قبل الصناعية” ضمن الجدل بشأن موضوع الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية الذي ساهم في إثرائه “موريس دوب” (1900 – 1976)، و “بول سويزي” ( 1910 – 2004) وغيرهما من الباحثين الماركسيين في العلوم الإجتماعية، خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وأكد موريس دوب و بول سويزي على عددٍ من العوامل التي لعبت دورًا مهمًا وتفاعليًا في التحول إلى الرأسمالية، منها الصراع الطبقي وتطور التجارة والبيئات الحَضَرية (المدن)، رغم اختلاف الباحِثَيْن حول العامل الأساسي في التحول في أوروبا الغربية.
لقد أَوْلَى بول باران ( 1910 – 1964 – مؤلف كتاب “الإقتصاد السّياسي للتّخلّف وأسباب التخلف الأساسية) و بول سويزي و”المجلة الشهرية” ( Monthly Review ) الكثير من الاهتمام للنضالات والثورات في الجنوب العالمي، ويَعْتَبِرُ بول باران إن التّخلف الحالي في البلدان الفقيرة هو نتاج الرأسمالية الإحتكارية (الإمبريالية)، وقام أندريه غوندر فرانك (1929 – 2005) و إيمانويل والرشتين (1930 – 2019) بتحليل دور التجارة وتقسيم العمل و”المنافسة” وترشيد الإنتاج لتفسير الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية في أوروبا، وأَكَّدَ بول سويزي أن هذا التحول لم يحدث بين عشية وضحاها، بل على مدى قرنين من الزمن.
ركزت “مدرسة التبعية” بشكل خاص على الاستعمار والغزو العسكري وتأثيرهما على التكوين الطبقي في معظم بلدان العالم، فقد كان العُنف وإبادة واستغلال الشعوب الأصلية والتّوسُّعات الإستعمارية ونهب ثروات البلدان المستعمَرة (بالإضافة إلى العبودية في الولايات المتحدة) من العوامل الأساسية لتَطَوُّر الرأسمالية في إنغلترا وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وعندما تهيمن الرأسمالية على السوق الداخلية، فإنها تسعى إلى التوسع بَحْثًا عن المواد الخام والعمالة الرّخيصة والأسواق لتصريف فائض الإنتاج في أماكن أخرى من العالم: هذه هي الإمبريالية، ومن خصائصها: نقل فائض الجُهد البشري وفائض القيمة من “المحيط” – الذي تحكمه حاليا، بعد موجة الإستقلالات الشّكلية، فئات برجوازية كمْبْرادُورية مَحلّية تابعة – إلى “المركز”، أي مركز الإمبريالية، مما يُشكل أحد الأسباب الرئيسية للتطور غير المتكافئ بين البلدان، وأحد أسباب إنتاج – وإعادة إنتاج – التّخلّف والتَّبَعِيّة…
كانت الليبرالية الجديدة خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، في بريطانيا (مارغريت تاتشر) والولايات المتحدة (رونالد ريغان)، بمثابة إشارة إلى نهاية أو إفْلاس الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية والقَطع مع أي إشارة إلى الماركسية، وعودة التقليد الأوروبي المركزي للاشتراكيين الغربيين.
جذور الاختلافات
في منتصف القرن التاسع عشر وحتى ظهور كومونة باريس (1871)، آمن كارل ماركس بـ«الدور التقدمي للرأسمالية». حيث كانت لديه بعض الأوهام وكان يأمل أن يؤدي الاستعمار البريطاني للهند، ولو بشكل غير مباشر أو عن غير قصد، إلى تأهيل اقتصاد الهند ومساعدتها على التصنيع الذي اعتبره ماركس بَوّابَةً للتقدم والثورة البروليتارية، ولو إن كارل ماركس اعترف لاحقًا بأن “الاستعمار البريطاني تسبب في أضرار جسيمة للشعب الهندي، فقد دمرت إنغلترا هيكل المجتمع الهندي بأكمله، دون إعادة بنائه، مما تسبب في بؤس الهند…”
أما لينين فقد اعتبر أن “الفترة ما بين 1789 و1871 كانت فترة الرأسمالية التقدمية عندما كانت الإطاحة بالإقطاع والاستبداد، والتحرر من الحكم الأجنبي على جدول أعمال التاريخ”، لكن لينين اعتبر أن “العصر الإمبريالي للرأسمالية بعد عام 1871 كان رجعيا وفاسدًا”
يشير كيفن أندرسون (من مواليد 1948) إلى أن أفكار ماركس تجاه الاستعمار تطورت منذ أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، خاصة بعد الثورة الهندية عام 1857، وقد دفعه ظهور حركات المقاومة المهمة في معظم أنحاء العالم المُسْتَعْمَر إلى التركيز أكثر على إمكانات الثورة خارج أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
كانت المنافسة والخلافات بين القوى الإمبريالية حول تقسيم العالم هي الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، ولكنها كانت أيضًا السبب المُباشر لإطلاق الثورة البلشفية في روسيا، سنة 1917، وكانت الإمبريالية آنذاك من محاور الناقشات في العالم، ويعود الفضل إلى القادة الإشتراكيين، مثل فلاديمير إيليتش لينين و روزا لوكسمبورغ، في عودة هذا النقاش حول موضوع الحرب والاستعمار إلى جدول الأعمال خلال الحرب العالمية الأولى، واستمرَّ النقاش خلال فترة ما بين الحرْبَيْن، حتى الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتعزيز الاتحاد السوفييتي، رغم الدّمار وارتفاع عدد الضحايا، ثم انتصار الثورة الصينية، سنة 1949، وتكثيف الحروب ضد الاستعمار، وتأسيس مجموعة عدم الإنحياز، خلال فترة الإستقلال الشكلي، حيث تَسْتَمِرُّ سيطرة الإمبريالية على البلدان “المستقلة” دون اللجوء إلى الاحتلال العسكري الذي حصل خلال القرن التاسع عشر، ولئن عادت الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي إلى اللُّجوء إلى الإحتلال المباشر.
سَمَحَت “الحرب الباردة” وحروب التحرير الوطني (فيتنام وكوبا والجزائر وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وغيرها)، وحركة عدم الانحياز وغيرها من المُستجدّات والأحْداث، لـ “المستعمرات الجديدة” بالانتصار في بعض المعارك ضد الإمبريالية التي تكيفت بسرعة ولجأت إلى تكثيف الحرب الأيديولوجية، فضلا عن المؤامرات والانقلابات وتنصيب الحكومات العميلة التي أصبحت الوسائل المُفَضَّلَة للإمبريالية كبديل للإحتلال العسكري المباشر…
أَفْضَت المناقشات والتأملات حول الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية، منذ منتصف القرن العشرين، إلى ظهور باحثين ماركسيين ركزوا أبحاثهم على أصول التخلف وعلاقة التبعية بين “المركز الإمبريالي” و”المستعمرات الجديدة”، أو بلدان “المُحيط” ( أو “الأطْراف”)، وسُمِّيَت هذه المجموعة أو هذا التّيّار الماركسي “مدرَسَة التّبَعِيّة”، ويُعَدُّ بول باران (1909 – 1964) أحد روادها، وفتحت هذه المدرسة أُفُقَ الأدب الماركسي على الماضي والحاضر لدول خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، ونشر بول باران كتابه “الاقتصاد السياسي للنمو” سنة 1957، ونَشَرَ بالإشتراك مع بول سويزي ( 1910 – 2004) كتاب “رأس المال الاحتكاري، أطروحة عن المجتمع الصناعي الأمريكي”، ودَرَسَ بول باران وحَلَّلَ نَهْبَ الإمبريالية لبلدان “العالم الثالث”، بمساعدة شريحة من البرجوازية الكمبرادورية المحلية، واستنتج إن هذا النهب يعيق تطور المجتمعات “شبه المستعمرة”.
غابت الإمبريالية من جدول أعمال “اليسار الغربي” خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ولم تعد الإمبريالية موضوعًا للنقاش داخل هذا اليسار، خاصة منذ عام 1973/1974، مع بعض الإستثناءات، لكن باحثين من تيارات ماركسية من خارج الأحزاب أو التيارات الشيوعية التقليدية بدول أوروبا الإستعمارية، مثل سمير أمين وأندريه غوندر فرانك وإيمانويل والرستين، طوروا نهجًا متميزًا لتحليل ظروف صعود الرأسمالية حتى المرحلة الإمبريالية، ودَوْر الإمبريالية في إدامة التّخلّف، وبدلاً من التركيز فقط على أوروبا الغربية والولايات المتحدة، استكشفوا أيضًا كيف ساهم النظام الإمبريالي والتقسيم العالمي للعمل في نقل الفائض من الأطراف إلى المركز، واستنتجوا ضرورة التنمية بالقطيعة مع هذا النموذج الرأسمالي، فقد عزز صندوق النقد الدولي والبنك العالمي التقسيم الدولي للعمل ونَقْلَ الثروة من “الجنوب” إلى “الشمال”، وهي مواضيع نادرًا ما يتطرق لها المثقفون الليبراليون أو اليساريون الغربيون، بل على العكس من ذلك، منذ السبعينيات، ساهم الكتاب اليساريون مثل بيل وارين، وروبرت برينر، ومايكل هاردت، وأنطونيو نيغري، وديفيد هارفي في نَشْر نوع من الثورة الفكرية المضادة التي سهّلت ظهور أيديولوجية محافظة، تم تقديمها على أنها خطاب يساري، مما يذكرنا بالبيئة الفكرية لاشتراكيي الأممية الثانية، الذين انفصلوا بشكل أساسي عن التقاليد الماركسية، من خلال الحد من الإمكانات الثورية وجَر جماهير أحزابهم إلى التحالف مع الرأسمالية في الدّول الإمبريالية.
الانتهازية داخل الحركة العمالية الدولية
أثبت العمال الإنغليز في زمن ماركس والعمال الألمان في زمن لينين أنهم غير قادرين على لعب دور قيادي في النضال من أجل الاشتراكية، إذْ وقعت الأحزاب والنقابات العمالية الرئيسية في البلدان الإمبريالية تحت التأثير السياسي للقوى المؤيدة للاستعمار والمؤيدة للإمبريالية، وكان هذا التأثير للرأسمالية من أسباب الخلافات بين الأطراف المُنْتَمِيَة إلى الأممية العمالية الأولى والثانية، من عصر ماركس وإنغلز إلى عصر لينين، وحاول الاشتراكيون الثوريون دائمًا تسخير الإمكانات الثورية للطبقة العاملة ضد الرأسمالية وضد القادة الانتهازيين للأحزاب والنقابات العمالية.
تطورت النضالات الطويلة والوحشية ضد الانتهازية تدريجياً، وشكّلت أُطْرُوحات لينين ذروة الصّراع، قبل الثورة البلشفية، وتمثلت (أطروحات لينين) في احتمال “إن الثورة وبناء مجتمع اشتراكي جديد لن يتم بالضرورة تحقيقهما في أوروبا بدرجة أولى”، وبنى لينين تحليله على نجاح الرأسمالية في إفساد جزء من البروليتاريا (الأرستقراطية العمالية) في المراكز الرأسمالية المتقدّمة، وتمكنت الدّعاية الإمبريالية من تلويث العقول وترويج أكاذيب مثل “المُهِمّة الحضارية” التي تُنفذها الرأسمالية الأوروبية في البلدان المُسْتَعْمَرَة، وتمكنت من استمالة تيارات اشتراكية ديمقراطية وشيوعية (الحزب الشيوعي الفرنسي، على سبيل المثال) مما ساهم في تلويث الفكر الإشتراكي وابتعاد فئات من العمال والبرجوازية الصغيرة والمُثَقّفين عن الفكر الثّوري أو التّقدّمي…
لقد أثبت التاريخ أن لينين كان على حق، لأن أول ثورة اشتراكية ناجحة حدثت في روسيا، الجزء المتخلف من أوروبا، واندلعت الثورة الاشتراكية الكبرى الثانية في الصين، وكان للثورة البلشفية سنة 1917 تأثير كبير في “الشرق” وفي “آسيا” التي نشأت بها أحزاب كبيرة، في إندونيسيا وماليزيا والهند، غير أن القوى الإنتاجية كانت أكثر تطورا في أوروبا الغربية، لكن لينين أكد – منذ سنة 1913 – أن القوى الثورية في أوروبا تخلفت عن تطور قوى الإنتاج وعن توسع الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية والإمبريالية.
في فرنسا، ترتبط الكنفدرالية العامة للشّغل ( Confédération Générale du Travail – C.G.T. )، ذات الإرتباط الوثيق بالحزب الشيوعي الفرنسي، بعلاقات وثيقة بالهستدروت الصهيوني وترفض قياداتها المتتالية، السابقة والحالية، إعادة النّظر في هذه العلاقات الحميمة، ناهيك عن القطع مع هذه المؤسسة الصهيونية التي كان شعارها – ولا يزال – منذ الفترة السابقة لتأسيس الكيان الصّهيوني “العمل اليهودي” أي إقصاء غير اليهود وأصحاب الأرض الشرعيين (العمال الفلسطينيين) من العمل، قبلل 1920، لكي يضطروا إلى الهجرة ومغادرة وطنهم فلسطين ليتركوا المكان للمستوطنين الصهاينة القادمين من أوروبا، ورفضت قيادات “سي جي تي” الرّد أو مناقشة الإنتقادات التي أطلقها العديد من المناضلين ومن قيادات الهيئات الوُسْطى والدُّنْيا بشأن هذه العلاقة…
أما في ألمانيا فلا وجود ليسار مُنَظّم قادر على التعبير عن آرائه، بل هناك شبه إجماع على الدّعم المُطْلق للكيان الصهيوني، عسكريا وماليا وسياسيا، بذريعة التكفير عن الإضطهاد الذي لاقاه يهود ألمانيا واليهود الأوروبيون خلال الحرب العالمية الثانية، بينما لم تعترف القيادات السياسية الألمانية بجرائم الإبادة التي نفّذها الجيش والمُستوطنون الألمانيون في ناميبيا وتنزانيا والمستعمرات الألمانية السابقة في إفريقيا وفي المحيط الهادئ…
رغم الخط الإنتهازي السّائد داخل الحركة النقابية والعُمّالية في أوروبا وأمريكا الشمالية، تمَرّد عشرات الآلاف من المواطنين وتظاهروا ضدّ المجازر الصهيونية وقد يكون ذلك ردّ فعل مُؤقّت ضدّ بعض مظاهر الوَحْشية، لكنه يُشكل تحوُّلاً في قسم هام من الرأي العام، رغم التّسميم اليومي المُستمر، ووَرَدت أخبار عن مقاطعة العُمّال للسفن وشحنات الأسلحة والذّخائر التي ترسلها مصانع الدول الإمبريالية إلى الجيش الصهيوني، كما أَضْرَب العُمال في بعض القطاعات في بعض البلدان الأوروبية، احتجاجًا على جرائم الإبادة التي تدعمها حكومات بلدانهم، وتضامنًا مع الشعب الفلسطيني…
الاشتراكية في عصر الاستعمار الجديد
إن استقلال البلدان الخاضعة للسيطرة – حتى لو كان هذا الإستقلال غير كامل – هو النتيجة المباشرة للنضالات والثورات الاشتراكية والعوامل الأخرى التي أضعفت الإمبريالية البريطانية والفرنسية، ومع ذلك، ظل النضال ضد الإمبريالية في مرحلة جنينية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وأصبحت البلدان الإمبريالية – رغم تَطَوّر القوى المُنْتِجَة – تُشكّل الحلقة الضعيفة في النضال ضد الإمبريالية أو المصارف الكُبرى أو الشركات الاحتكارية العابرة للقارات، بفعل ضُعْف الأحزاب الثورية وبفعل احتواء الرأسمالية لأشكال المُعارضة ونجاحها في إجهاض محاولات التّمرّد، بإلقاء بعض الفُتات مما تجنيه من فائض القيمة في بلدان “الأَطْراف”، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية وصعود الإمبريالية الأمريكية.
تحكم البرجوازية الكمبرادورية معظم البلدان المستقلة حديثا، باعتبارها “مديرا” أو “عميلا” أو “وَكيلاً” للإمبريالية التي نصبتها في السلطة لمراقبة مصالح المستعمرين السابقين، ويفرض هذا الوضع على البروليتاريا والقوى الثورية واجب النضال المُزْدَوَج ضد الإمبريالية والبرجوازية المحلية، لكن رفاق البلدان الإمبريالية يقللون من دور الإمبريالية وأجهزتها (أدواتها) مثل البنك العالمي أو صندوق النّقد الدولي الذي يتمثل برنامجه أو مخططاته في التصديق على وضع الهيمنة الإمبريالية وتأبيدها.
تُمثل مسألة هيمنة الإمبريالية ونهب ثروات بلدان “الجنوب” من قبل الشركات المتعددة الجنسيات من “الشمال” وعواقبها على عدم تنمية البلدان الخاضعة للسيطرة أو استحالة تطبيق نفس خطط التنمية من الدول الرأسمالية “الغربية” موضوعًا راهنا، وجب طرحه للنقاش مع رفاق بلدان “المَركز” لأن هذا الموضوع وغيره، مثل الاعتداءات الإمبريالية المسلحة، والتغييرات العنيفة للأنظمة السياسية بحجة عدم احترام حقوق الإنسان أو موضوعات أخرى مثل القضية الفلسطينية، قد وسعت الفجوة بين الحركات الثورية في “الجنوب” و “الشمال”، خاصة منذ نهاية السبعينيات، مع هيمنة الليبرالية الجديدة، أولا في بريطانيا العظمى (مارغريت تاتشر)، وفي الولايات المتحدة (رونالد ريغان)، ثم في معظم الدول الرأسمالية المتقدمة، وكان سقوط جدار برلين والاتحاد السوفييتي بمثابة نقطة تحول نيوليبرالية وتكريس الهيمنة الأمريكية المُطْلَقة، وكان من نتائجها أن اختفت تقريبا المناقشات حول الإمبريالية من جدول أعمال يسار البلدان الإمبريالية لمدة ثلاثة عقود تقريبا.
من حسن الحط إن رموز أو ركائز «مدرسة التبعية» استمروا في نشر أبحاث مهمة حول الإمبريالية واحتكاراتها ودورها في استمرار تخلف بلدان «الجنوب»، وفي الوقت نفسه، نشر مثقفون مُرْتَدّون من بلدان «الشمال»، مثل أنطونيو نيغري ومايكل هاردت وديفيد هارفي، الذين يعتبرون «يساريين»، أطروحات تعيد إنتاج الجغرافيا السياسية المحافظة القديمة في ثوب جديدن ويزعم أنطونيو نيغري ومايكل هاردت “يجب أن نتحدث عن الإمبراطورية وليس عن الإمبريالية”، في نسخة محدثة من أطروحة برنشتاين أو وارين أو برينر، التي تشير إلى أن الرأسمالية قد تجاوزت مرحلة الإمبريالية وأن الإمبريالية قد تم استبدالها الآن بـ “الإمبراطورية الرأسمالية ” التي هم تم تعريفها على أنها “الرأسمالية الأفقية اللامركزية”، ويعتبر جون بيلامي فوستر أطروحةَ نيغري وهارت حول الإمبراطورية بمثابة “نسخة يسارية من أطروحة الليبرالية الجديدة حول نهاية التاريخ”.
رفض هاردت ونيغري نظرية الإمبريالية من خلال إعادة تفسير الجدل الذي دار بين لينين وكاوتسكي في العقد الأول من القرن العشرين، مجادلين بشكل خاطئ بأن “أطروحة كاوتسكي حول الإمبريالية المتطرفة كانت أكثر انسجاما مع عمل ماركس”، وبالنسبة لهاردت ونيغري، كان الاختيار الحقيقي المتضمن في عمل لينين هو بين الثورة الشيوعية العالمية أو الإمبراطورية (اسم جديد لإمبريالية كاوتسكي المتطرفة).
تعتبر كتابات هذه الشخصيات اليسارية مصْدَرَ بلبلة، فهي تُهْمِلُ بعض المشاكل المعاصرة مثل عدم المساواة في التطور الرأسمالي وتهمل جُذُور الصعوبات التي تواجهها البلدان الخاضعة (المستعمرة الجديدة) بسبب الاستغلال المفرط الإمبريالي ونقل الثروة من “المحيط” نحو «المركز»، كجزء من التقسيم الدولي للعمل في الاقتصاد العالمي، وبسبب التجارة غير المتكافئة، مما يوسع الفجوة بين هاتين الفئتين من البلدان.
الصّهيونية فَرْع من الإمبريالية
بخصوص قضايانا العربية نُشير إلى خضوع مجمل البلدان العربية للإحتلال العثماني طيلة أكثر من أربعة قُرُون (باستثناء مناطق قليلة) ثم للإستعمار الأوروبي (الفرنسي والبريطاني بشكل خاص ) وتجدر الإشارة إلى العلاقة المباشرة بين الدّعم الأمريكي والإمبريالي غير المحدود للكيان الصهيوني خلال عدوان 2023/2024 والمُخطّطات الإمبريالية منذ مؤتمر برلين ( 1878 – 1884) وإلى اتفاقيات سايكس – بيكو ( 1916) وإلى مشروع الشرق الأوسط الكبير (أو الجديد) وجميعها تهدف تقسيم الوطن العربي ومَنْع اتحاده ( في شكل وحدة اندماجية أو كنفيدرالية أو غيرها) وما الكيان الصهيوني سوى أداة لتحقيق أهداف النهب والهيمنة الإمبريالِيّيْن، وإن كان للكيان الصهيوني مخططاته الخاصة، لكنها تبقى ضمن الخَطّ العام السّائد للإمبريالية، وهذه بعض المُعطيات عن العلاقة العُضوية بين الإمبريالية الأقوى ( الأمريكية) والكيان الصهيوني:
تُشير وسائل إعلام صهيونية إلى أن العُدْوان على أهلنا في فلسطين ولبنان ( 2023/2024) لم يكن ممكنًا بدون الدّعم السياسي والإعلامي والدّبلوماسي الأمريكي وخصوصًا الدّعم المالي والعسكري وزيادة حجم ونوعية شحنات السلاح والذخائر الأمريكية، والدعم المادي واللوجيستي الذي تقدمه الولايات المتحدة ويتضمّن العتاد العسكري المتطور و 75 طائرة مقاتلة من طراز إف-35، التي مولت تصنيعها الدّول الأوروبية من أعضاء حلف شمال الأطلسي، وتعتبر أكثر المقاتلات تقدما من الناحية التكنولوجية، وحصل عليها الكيان الصهيوني قبل أي من الدول التي ساهمت في تمويل تصنيعها، وتم تسديد الثمن بمساعدة أمريكية، كما نصبت الولايات المتحدة في فلسطين المحتلة أنظمة دفاع مثل باتريوت والقبة الحديدية ثم منظومة “ثاد”، وأرسلت أموال ضرائب سكان أمريكا (أمريكيين ومقيمين) لمساعدة العدو الصهيوني وإعادة تزويد نظام القبة الحديدية بالصواريخ الاعتراضية، ولتمويل تطوير نظام “مقلاع داود” المصمم لإسقاط الصواريخ التي تطلق من مسافة 100 إلى 200 كيلومتر، وما إلى ذلك من الأسلحة المتطورة، وأعلنت وزارة الحرب الصهيونية يوم الخميس 26/09/2024 عن حصولها على مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة بقيمة 8,7 مليار دولارا لدعم العدوان على الشعب اللبناني، وتتضمن المساعدات 3,5 مليارات دولار لتمويل شراء مستلزمات حيوية للحرب (دون تفصيل) و5,2 مليارات دولار لتسليح أنظمة القبة الحديدية ومقلاع داوود ونظام “سَهْم” ونظام الليزر، وفق بيان وزارة حرب العدوّ الذي أشار إنه تم الإتفاق على تسليم المبالغ والمعدات المذكورة خلال الفترة القصيرة المقبلة (دون تحديد)، واتخذت إدارة جوزيف بايدن (بدعم من أعضاء الكونغرس) هذه القرارات رغم استطلاعات الرأي التي تُشير إلى أن أكثر من نصف الأمريكيين يعتقدون “بضرورة تقييد المساعدات العسكرية” المقدمة للكيان الصهيوني الذي يستهدف النساء والأطفال والمباني والمدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء، مما خلّف في غزة دمارًا لم تعهده الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، ومجاعة غير مسبوقة، وتهديدًا لحياة ملايين الفلسطينيين بسبب حَظْر دخول الغذاء والدّواء وفِرق الإغاثة وبسبب رفض تطبيق قرارات ما يُسمّى “المجتمع الدّولي” ( الأمم المتحدة) والمُؤسسات القضائية الدّولية…
قُدِّرَت قيمة المساعدات العسكرية الأمريكية الرّسمية المُعْلَنَة للكيان الصهيوني، من سنة 1948 إلى سنة 2022، بنحو 158,8 مليار دولار، وفق البيانات الأميركية الرسمية، وشبكة “بي. بي. سي”، وقدّرت بيانات خدمة أبحاث الكونغرس إن هذا المبلغ قد يصل إلى 260 مليار دولار عند احتساب معدل التضخم، وتنقسم المساعدات الأميركية إلى مساعدات عسكرية ( لا تتضمن عشرة مليارات دولارا لبرامج الصواريخ) ومساعدات اقتصادية، وتكون معظم المُساعدات العسكرية في شكل مِنَحٍ لشراء أسلحة أمريكية، فضلا عن 3,8 مليارات دولارا سنويا يتلقاها الكيان الصهيوني في شكل منحة من البرنامج الأمريكي للتمويل العسكري الموجّه للخارج بالإضافة إلى 500 مليون دولار سنويا للبحث والتطوير ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي مثل القبة الحديدية، وبلغت المُساعدات المُقدَّمة للعدو الصهيوني – سنة 2021 – نسبة 59% من إجمالي المساعدات العسكرية التي تُدْرِجُها الولايات المتحدة ضمن برنامج التمويل العسكري الخارجي، وتبلع نسبة بقية دول العالم 41% من إجمالي المساعدات الأميركية، ويتم ذلك بدعم من الكونغرس الأميركي الذي أقَرَّ عدة تشريعات تضمن استمرار التفوق العسكري الصهيوني على الجيوش العربية مجتمعة، من خلال تقديم أحدث الأسلحة الأميركية مجانا حيث يتم تسديد ثمنها من برامج المساعدات العسكرية…
إننا، كشعوب عربية، في مواجهة مُباشرة مع الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، منذ القرن التّاسع عشر، ومن الخَطأ الفَصْل بين الكيان الصّهيوني والإمبريالية العالمية والأنظمة العربية الحاكمة، وتجَلّى هذا التحالف الثّلاثي خلال العدوان الصهيوني المُكثّف على الفلسطينيين في غزة والضّفّة الغربية، وعلى الشعب اللّبناني، وكما ذكرنا فإن الكيان الصهيوني يُمثل القاعدة المتقدّمة للإمبريالية، ولا يمكنه شن حرب واسعة دون غطاء أو دعم مُباشر من الإمبريالية الأمريكية التي تُشارك في العدوان الحالي، من خلال شحنات الأسلحة والعتاد ونشر منظومة الصواريخ المتطورة، وأَمَرَ الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بنفسه، منصف تشرين الأول/اكتوبر 2024، بعد عام من العدوان المستمر، بنشر نظام الدفاع الجوي للارتفاعات العالية (ثاد) في فلسطين المحتلة وإرسال طاقم تدريب وتشغيل هذه الأسلحة، يتكون من أكثر من مائة ضابط ومُهندس عسكري أمريكي، في إطار الإلتزام الأمريكي بضمان تَفَوُّق العدو الصهيوني على كافة الجيوش العربية مجتمعة، سواء كانت الأنظمة العربية عميلة أو مُهادنة أو مُطبّعة، مما يُؤَكّد المُشاركة المُباشرة للولايات المتحدة في حرب إقليمية قد يتّسع نطاقها من أجل توسيع هيمنة الكيان الصهيوني، كقاعدة ومَحْمِيّة امبريالية، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز يوم الرابع من تشرين الأول/اكتوبر 2024، أن الجنرال تشارلز كيو براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة، أثار قضية توسيع نطاق الحرب، خلال اجتماع بين البيت الأبيض وطاقم عسكري، لدراسة نَشْر المزيد من السفن العسكرية والطائرات المُقاتلة في المنطقة المحيطة بفلسطين والخليج العربي، لإشعار الجميع بقُوّة الدّعم الأمريكي للكيان الصّهيوني، خصوصًا بعد استهداف صواريخ إيران والمقاومة اليَمَنِيّة واللبنانية قواعد الجيش الصّهيوني في حيفا وتل أبيب والنّقب…
المحافظون الجُدُد والصهيونية والفاشية
نستشف من التعليقات والآراء “اليسارية” حول الوضع الحالي في فلسطين بأن المشكلة تتلخص في وجود حكومة يمينية ورئيس وزراء “مجنون”، وبعبارة أخرى، بمجرد استقالته أو إقالته، ستُحل “الأزمة”، فيما يستمر الإحتلال وإزاحة الفلسطينيين عبر الحصار والتجويع وافتكاك الأراضي وتدمير المباني، بنسَق أقلّ حِدّة مما يحصل في غزة، وهذا وَهْمٌ أو بالأحرى قُصُور في فهم طبيعة الكيان الصهيوني وطبيعة الإستعمار الإستيطاني الصهيوني القائم على العقيدة العنصرية والتفوقية والتّوَسُّعِيّة، بدعم من القوى الرأسمالية المتطورة لضمان السيطرة الإمبريالية على الوطن العربي والمنطقة، وفق تصريحات الزعماء الصهاينة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذين اعتبروا السّكّان الأصليين (الذين ينكرون وجودهم أحيانًا) برابرة وغير مُتَحَضِّرِين، واعتبروا تأسيس دولة “إسرائيل” ضمانًا “للدفاع عن الحضارة الغربية في المنطقة”.
إنها إذًا حرب إبادة صَمّمَتْها الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة ويُنَفِّذها الكيان الصّهيوني، ضدّ بقية بلدان وشُعُوب العالم “غير الغربي” الذي يُمثل الشعب الفلسطيني أهم رموز تطلُّعاته للتّحرّر الوطني.
يَعْتَبِرُ بعض رفاقنا في البلدان الإمبريالية إن ما يحدث من إبادة جماعية هو حادث منعزل أو “ردّ فعل إسرائيلي” بعد العملية الفدائية ليوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، فيما نعتبر نحن (المواطنون العرب) إن العدوان الحالي استمرارٌ للمخطط الصهيوني الذي لا يمكن فَصْلُهُ عن استراتيجية الإمبريالية البريطانية والفرنسية بالأمس، والأمريكية حاليا، ويُعتبر الكيان الصّهيوني أداةً لتحقيق الأهداف الأمريكية ولإنجاز “مشروع الشرق الأوسط الجديد”…
يَعْتَبِرُ بعض “أصدقائنا” في “الغرب” إن “اليمين الإسرائيلي وحكومة نتن ياهو مسؤولية عن العدوان الحالي” ونرى إن المشروع الصهيوني برمته قائم على الإحتلال الإستيطاني والتّوسُّع، بقطع النظر عن أسماء وألوان الحكومة الصهيونية ووزرائها، وإن التيار الصهيوني الذي تمثله الحكومة الصهيونية الحالية لم يحكم إلا بعد ثلاثين سنة من تأسيس دولة الكيان الصهيوني، ولن تتغير طبيعة الإحتلال ولا طبيعة مرحلة التّحرّر الوطني بالنسبة للشعب الفلسطيني، بمجرد تغيير رئيس الوزراء أو حكومة الإحتلال…
يندرج هذا الخلاف ضمن مجموعة من الإختلافات الأخرى، من ضمنها ماهية الدّيمقراطية البرجوازية ومسألة “الفاشية”، فقد ثارت ثائرة العديد من المنظمات اليسارية في الدّول الإمبريالية عندما اعتبر سمير أمين وإيمانويل والرشتاين وآخرون النظام الأمريكي فاشيا، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، بعد إقرار القوانين المُقَيّدة للحريات (مثل باتريوت أكْتْ) سنة 2001 وتعميم المراقبة الإلكترونية والإعتقالات العشوائية والرقابة على المنشورات، بذريعة “مكافحة الإرهاب”، ويُحاجج أصدقاؤنا بأن السّماح بتعدد الأحزاب وبوجود النقابات وإجراء الإنتخابات الدّورية في أوانها، ينفي صفة الفاشية على الأنظمة الرأسمالية المتطورة، وهي “حجج” واهية لا تُراعي التطورات التي حصلت بعد هزيمة الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، ولا تُراعي تطورات الأحداث بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وهيمنة “القُطب الواحد” بقيادة الإمبريالية الأمريكية التي غيّرت تكتيكاتها العسكرية، لتخوض الحروب بواسطة الوُكلاء، مثل أوكرانيا ضدّ روسيا وتايوان ضدّ الصّين والكيان الصّهيوني للسيطرة الكاملة على الثروات والممرات التجارية والمائية في الوطن العربي وغربي آسيا والقرن الإفريقي…
صَرّح أحد زعماء المجلس الصهيوني المُسمّى “كريف” في فرنسا – ثاني أكبر مجموعة ضغط صهيونية دولية بعد “أيباك” الأمريكية – تعليقًا على وصول زعيم اليمين المتطرف، جان ماري لوبان، إلى الدّور الثاني للإنتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2002، بأن صعود اليمين المتطرف يُشكل إنذارًا للمهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا وأوروبا، بينما كانت منظمات اليسار الفرنسي تعتبر اليمين المتطرف “مُعاديا للسّامية”، ولا تعتبره حليفًا للصهيونية التي يشترك معها في الجذور العقائدية الفاشية، رغم التغييرات والوقائع الجديدة، فقد اشتهر “جون بولتون”، المستشار السايق للأمن القومي الأمريكي خلال رئاسة دونالد ترامب، بتحريضه على الحروب المستمرة وعلى استخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة السياسية التي لا تُلائم الولايات المتحدة، وأنشأ مؤسّسة في بروكسل، عاصمة الإتحاد الأوروبي وبلجيكا، هي عبارة عن مُؤسّسة سياسية بغطاء “مكتب استشارات” بتمويل أمريكي ( خصوصًا من قِبَل “المحافظين الجُدُد” و “المسيحية الصّهيونية” ) لتنسيق العمل بين أطراف اليمين المتطرف في أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني، وأشرفت هذه المؤسسة على دورات تدريبية لتأهيل المشرفين على دعاية وإعلام وبرامج اليمين المتطرف في أوروبا، منذ سنة 2019، للتّكَيُّف مع الدّساتير والقوانين والمؤسسات الدّستورية، بهدف الإستيلاء على السّلطة عبر الإنتخابات، وتندرج هذه الخطوة ضمن هيمنة النيوليبرالية وضمن العلاقات التي تطورت بين الكيان الصهيوني واليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا الشمالية منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، وتجلّى ذلك من خلال الإجتماعات الدّوْرية الرّسمية والعَلَنِية بين زعماء اليمين المتطرف في أوروبا وزعماء الكيان الصهيوني، خلال القرن الواحد والعشرين، وخصوصًا منذ سنة 2010…
خاتمة
العلاقة بين الإستعمار و”تخلف” الدول الفقيرة
مُنحت جائزة المصرف المركزي السويدي للعلوم الإقتصادية (المُسمّاة اعتباطًا “جائزة نوبل للإقتصاد”)، يوم الرابع عشر من تشرين الأول/اكتوبر 2024، إلى ثلاثة باحثين: دارون عاصم أوغلو و سايمون جونسون و جيمس روبنسون، وتمثلت أبحاثهم ومساهماتهم النّظرية والتجريبية في محاولة إدراك ” كيفية تشكيل المؤسسات وتأثيرها على الرخاء”، وحاولوا شرح الأسباب التي تجعل بعض الدول تعاني من صعوبات اقتصادية كبيرة اليوم، وأثبتوا الدّور الأساسي للإستعمار في خَلْق هذا التفاوت وتعميقه، وهو أمر اضطر البنك العالمي إلى الإعتراف به، ففي سنة 2022، وفقا للبنك العالمي، بلغ نصيب الفرد من الدخل في الدنمارك 74 ألف دولار وفي سيراليون 1900 دولار فقط، والسؤال المطروح: كيف يمكننا تفسير هذه الاختلافات في الدخل بين الدول؟ كيف يمكننا أيضاً أن نفسر أنه حتى عندما تميل البلدان الأكثر فقراً إلى أن تصبح أكثر ثراءً، فإنها لا تلحق بالبلدان الأكثر ازدهاراً؟ وشرح كُتاب مدرسة التّبَعية هذا الأمر بإسهاب، وتركّز عمل الفائزين بجائزة بنك السويد للعلوم الإقتصادية لسنة 2024 حول هذه الأسئلة وسلَطت مساهماتهم الضوء نَظريا وتجريبيا على العلاقة المركزية بين الإزدهار الإقتصادي وشبكة المؤسسات التي ضبطت إيقاعها الدّول الإمبريالية، مثل الإستثمار في البحث العلمي وحقوق الملكية التي تسندها منظومة قانونية قوية ونظام سياسي قادر على فرض وجهة نظره ومصالحه بالقوة العسكرية عند الضّرورة، ولا تتوفر عوامل القوة هذه سوى في الدّول الرأسمالية المتطورة، التي استعمرت بلدان “الجنوب” بالقوة العسكرية في السابق وتهيمن عليها بقوة الإقتصاد حاليا، وبالقوة العسكرية كذلك إن لزم الأمر، مما يجعل دَوْر الإستعمار أساسيا في التطور غير المتكافئ للدول، وخصوصًا في المستعمرات الإستيطانية، حيث قدّمت مؤسسات الإستعمار حوافز للمستوطنين للعمل والاستثمار في “وطنهم الجديد”، حيث ينعمون بالحريات السياسية والاقتصادية الأساسية التي حُرِمَ منها السّكّان الأصليون الذي حاصرتهم وهَجَّرَتْهُم المناجم والمزارع الكبرى التي استحوذ عليها المستوطنون، وهو ما حصل ويحصل في جنوب إفريقيا وفلسطين وإيرلندا وكاليدونيا، وما حصل سابقًا في أستراليا وأمريكا الشمالية ونيوزيلندا…
حصلت معظم الدّول المُسْتَعْمَرَة على الإستقلال من خلال عملية توافق مع الإستعمار الذي دعم الفئة الموالية له لإدارة شؤون البلاد، مما يجعل هذه الدول حديثة الإستقلال حبيسة العلاقات غير المتكافئة التي تُؤبّد منظومة الإستغلال والإضطهاد والفقر واتساع الفجوة الطّبقية، مما يُحتّم ضرورة الثورة ضدّ السّلطة السياسية والإقتصادية…
من المؤسف أن يضطر المناضلون الشيوعيون ببلدان “الأطراف” إلى استعادة النقاشات التي قسمت الأممية الثانية، خلال الحرب العالمية الأولى، لكي يقنعوا رفاقهم في دول “المركز” بأهمية النضال ضد الإمبريالية وشركاتها العبرة للقارات وبضرورة دعم هذه النضالات من قِبَلِ أحزاب اليسار والنقابات في الدّول الإمبريالية، وأظْهرت الحروب العدوانية التي أطلقتها الإمبريالية – بزعامة الإمبريالية الأمريكية – منذ انهيار الإتحاد السوفييتي (العراق منذ 1991 ويوغسلافيا وأفغانستان…) وخصوصًا العُدْوان الصهيوني المُستمر عند كتابة هذه الفقرات ( 20 تشرين الأول/اكتوبر 2024) عُمْقَ الإنقسام والخلافات، وصُعوبة النضال الأُمَمِي المُشترك وصعوبة تأسيس مؤسسات وأُطُر تنسيق النقاشات والنّضالات بين مختلف القوى الإشتراكية العالمية، واستغلت الرأسمالية – في عصر الإمبريالية – هذه الصعوبات لتصعيد هجومها ضدّ الطبقة العاملة والفُقراء داخل كل بلد، وضد الشُعوب والأُمم المُضْطَهَدَة في جميع أنحاء العالم…
وجب التّأكيد على تأثير أيديولوجية الإمبريالية في الرأي العام – بما في ذلك النقابات والأحزاب والقوى التقدمية – في “الغرب”، ووجب التأكيد على تحديد أطراف الصراع بين من يمتلكون وسائل الإنتاج، ومن يبيعون جُهْدَهُم والعمل على أدوات الإنتاج هذه، وبين رأس المال الإحتكاري الذي ينهب موارد وقوى العمل في بلدان “الأطراف” وشُعُوب وكادحي هذه البلدان، وهو تناقض بين رأس المال المُعَوْلَم والشعوب المُضْطَهَدَة، وهو صراع غير متكافئ أنتجَهُ تبادل غير متكافئ بين الدّول الإمبريالية (المَرْكَز) والبلدان والشُّعُوب الواقعة تحت الإضطهاد والإستعمار غير المباشر (المُحِيط أو الأطراف)، كما وجب التّأكيد على تكامل النضال ضد الإمبريالية أو الإضطهاد القَوْمي، والنضال ضد الإستغلال الطبقي، مما يُحتم قيام جبهة مناهضة للرأسمالية والإمبريالية وتفرعاتها مثل الصهيونية أو البرجوازية الكمبرادورية في بلدان “الأطراف”…
أعادت مدرسة التبعية النقاش حول جوهر الإمبريالية وفق التنظير اللينيني وحول التطور غير المتكافئ بين المركز الذي يُمثل الدّول الرأسمالية المتطورة (الإمبريالية) والأطراف، أي البلدان المُلْحَقَة برأس المال الإحتكاري، وكلما تطورت مجموعة الدّول الإمبريالية تخلّفت بلدان “الأطراف”، وتَتَعَمَّق الهُوّة بين مجموعَتَيْ الدّول، مما يُفنّد الرأي القائل “إن الرأسمالية تلعب دوراً تقدّميّاً في المستعمرات وتلعب دورا إيجابيا في تطوّر قوى الإنتاج”، لأن البيانات والأرقام – من مصادر مُتنوّعة – تُثْبِتُ تعميق الفجوة بمرور الزمن، ولذلك فإن الحل يكمن في القطيعة مع المنظومة الحالية وتكثيف التبادل بين القوى الثورية والتقدمية في دول “المُحيط” (أو الأَطْراف) من أجل إنجاز تطور مستقل ومنظومة “غير رأسمالية” (اشتراكية) أُفُقية تُقِرّ المساواة بين الأفراد والشُّعوب والدّوَل…
يتطلب النضال ضد الإمبريالية فهمًا أفضل للرأسمالية العالمية والاستغلال الإمبريالي ونقل الفائض، ويتطلب إدْراكًا لما يُعانيه العمال في البلدان الخاضعة للسيطرة، بسبب عجز الدّولة ( أو بسبب شروط القُرُوض) على تلبية الاحتياجات الأساسية للصحة أو التعليم أو الإسكان أو النقل العام أو البنية التحتية… ولا يمكن النضال ضد الإمبريالية دون فهم ما يجري في البلدان الواقعة تحت الهيمنة، فالنضال ضد الإمبريالية لا يهدف إلى “إصلاح الرأسمالية”، لأن النظام الرأسمالي مغلق، وغير قابل للإصلاح، وتكاد تكون فرص “انطلاق” أو “إقْلاع” بلدان “الأطراف” للوصول إلى مستوى التنمية في أوروبا أو أمريكا الشمالية معدومة، ولذلك يصبح الهدف الرئيسي لهذا النضال هو تغيير نمط الإنتاج وتغيير هدف “تحقيق أكبر قدر من الفوائض والأرباح” إلى تسخير وسائل الإنتاج لتلبية احتياجات المواطنين أولا، ولا يهم ما هو الاسم الذي يمكن أن نطلقه على نمط الإنتاج هذا، لكنه أفضل وسيلة لتحقيق المساواة بين المواطنين…
2024-10-24