هل نحن أمام أميركا جديدة؟
هاني عرفات
يحتدم الجدل هذه الأيام ، وتحديداً منذ وصول طرامب إلى سدة الحكم في دورته الثانية ، و بعد استقباله ومن ثم طرده للرئيس الأوكراني بهذا الشكل المهين، و بعد إشعاله حرب التعريفات الجمركية التي تمس أقرب حلفاء أميركا، و الأوامر الرئاسية المتتالية الهادفة ، لتصفية عدد من الدوائر الحكومية الأميركية ، و مغادرة عدد كبير من المؤسسات والمنظمات الدولية.
الجدل يدور حول سؤال كبير، هل نحن أمام أميركا جديدة مختلفة ؟ وإن كان الأمر كذلك ، فمن هي القوى الداخلية التي تقف خلفها ؟
سوف أحاول الاجابة على هذه التساؤلات ، رغم معرفتي المسبقة ، بأن هذا الأمر يحتاج إلى أكثر من جهد فردي، و ربما إلى العديد من الدراسات ، ومتابعة ما سوف تسفر عنه الأحداث في الشهور القادمة.
والآن دعونا نعود إلى الوراء قليلاً .
ليس خافياً على أحد ، أن أميركا تعاني من أزمات اقتصادية مزمنة . طرامب لم يخترع هذه الأزمات، إنما هو يحاول الخروج منها بطريقة مختلفة عن أسلافه.
يقوم الفهم الطرامبي على أساس، أن أميركا ظلمت تاريخياً في علاقتها مع العالم الخارجي، و أنها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ، تقوم بصرف مبالغ طائلة في الجوانب العسكرية ، لحماية حلفائها في أوروبا وفي شرق آسيا ، وفي بعض مناطق العالم الغنية بالثروات الطبيعية ، مثل منطقة الخليج العربي ، ولا تحصل بالمقابل على مردود مالي مقابل هذه الحماية.
هذا من الناحية السياسية ، أما من الناحية الاقتصادية ، وهي مرتبطة بشكل وثيق مع الناحية السياسية، فإن الطرامبية ترى بأن السياسة الاقتصادية العالمية التي اتّبعتها الإدارات السابقة، قد أضعفت الاقتصاد الأميركي، من خلال التسهيلات الجمركية الممنوحة للدول الأجنبية ، على حساب الاقتصاد الوطني ، وأن الحكومات الاميركية المتعاقبة ، سمحت بل وشجعت الشركات الاميركية، على الهروب للخارج ، وهذه حقيقة رغم أن السبب ليس التشجيع الحكومي بل الهرب أساساً من الضرائب العالية وتفادياً لأجور العمالة المحليّة المرتفعة، مقارنة ببلدان أخرى.
في واقع الأمر ، هناك جانب من الحقيقة في هذه الادعاءات ، فميزان التجارة ما بين الولايات المتحدة والصين مثلاً مختل إلى حد كبير.
الصين تصدر ما يقارب النصف تريليون دولار من البضائع لاميركا مقابل مائة واثنين وتسعين ملياراً تصدرها أمريكا للصين سنوياً. كما أن حجم الإنفاق العسكري الأميركي في حلف الناتو ، أكبر بكثير من مساهمة باقي أعضاء الحلف فيه.
هذه تحديات حقيقية للاقتصاد الأميركي ، وهذا التدهور لا يتمثل فقط في ارتفاع المديونية العامة، لنحو ستة وثلاثين تريليون دولار فقط ،والذي يستمر في التصاعد كل سنة، بل وفي تلاشي و ذوبان الطبقة الوسطى في المجتمع الأميركي ، وارتفاع نسب التضخم و معدلات الفقر أيضاً.
لذلك نلاحظ بأن حملات الانتخابات الرئاسية ، ومنذ أكثر من ربع قرن تركز على شعار التغيير والتجديد، من أجل الإيحاء للناخبين بأنّ الادارة القادمة سوف تقوم بحل المشكلات التي باتت مستعصية على الحل.
فيما يختلف طرامب في معالجة هذه القضية عن سابقيه؟
طرامب يستند في رؤيته ، إلى قاعدة أساسية يراها هو وأنصاره ، تتمثل في أن الولايات المتحدة، هي الدولة صاحبة أكبر اقتصاد،و أعتى قوة عسكرية ، وأن موقعها هذا يخولها لأن تأمر فتطاع ، وأنه لا توجد دولة على وجه هذه البسيطة ، تستطيع أن تقف في وجه أميركا ، وإن تجرأت على فعل ذلك ، فسوف تفرض عليها تعريفات جمركية عالية ، أو تحرم من الحماية ، وربما فرض عقوبات مستقبلاً.
الإدارات السابقة حاولت تعديل هذا الوضع بطرق شتى ، لكنها فشلت ، الفارق أن طرامب يحاول معالجة المسألة بطريقة الصدمة.
لقد أصبح أسلوب طرامب معروفاً للقاصي والداني ، هو غالباً ما يستعمل أسلوب الصدمة بوضع سقوف عالية وشبة خيالية مع منافسيه وخصومه.
في الواقع هناك مشكلتان تحولان بين طرامب وبين الوصول إلى الأهداف التي يريد.
المشكلة الأولى: هي أن الإنفاق المالي العسكري ، الذي قدمته الولايات المتحدة ، لحلفائها سواءً في الناتو أو غيرهم ، لم يكن يوماً لسواد عيون هذه البلدان ، كما يعتقد أنصار طرامب ، فمنذ خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا ، وما تلاها من انفاق عسكري ، كانت تهدف إلى تعزيز و تثبيت سيطرت اميركا على العالم ، ولم تكن في يوم من الأيام مجرد هبات أو عطايا خيرية.
لذلك فإن التوقف عن فعل ذلك سوف يعني بالمقابل المخاطرة بفقدان السيطرة تدريجياً ، حتى وإن كانت تصريحات طرامب و قراراته تدخل في باب المناورة ، كما يدعي أنصاره ، فإنها مناورة محفوفة بالمخاطر.
لن ينسى زعماء العالم لا سيما الأوروبيين منهم ، الموقف الذي تعرض له أحد أقرانهم ( زيلينسكي) في البيت الأبيض، ولن تمر التهديدات برفع الحماية ، أو فرض التعريفات الجمركية العالية مر الكرام .
أسلوب العلاج بالصدمة الذي اتبعه طرامب كان له حدين. الحد الآخر لهذا الموضوع ، هو أن أوروبا مثلاً أفاقت على واقع جديد ، لم تعتده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، وهي الان تحاول البحث عن طريقة لحماية مصالحها بعيداً عن الولايات المتحدة ، ألمانيا مثلاً قررت رفع موازنتها الدفاعية ، وإسبانيا اتجهت نحو توقيع اتفاقيات اقتصادية مع الصين ، و من المؤكد ، أن تتوالى ردود فعل دول أخرى، في الأشهر القليلة القادمة.
المشكلة الثانية: تتمثل في أن فرض الرسوم الجمركية العالية ، لن يحل بأي حال كل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي ، لأن هذا لا يحلّ جذور المشكلة ، الشركات المهاجرة ذهبت خلف الأيدي العاملة الرخيصة والضرائب الأقل ، والمواد الخام الرخيصة بالإضافة للأسواق القريبة . وحتى لو أصبحت التعرفة الجمركية المفروضة على بضائع هذه الشركات تكافئ أو تزيد عن ما تدخره من اجور و ضرائب، فإن اعادة هذه الشركات إلى الوطن تحتاج إلى زمن طويل، يقدره بعض خبراء الاقتصاد بعقد أو عقدين من الزمن ، لتوفير سلاسل إمداد جديدة ، و خبرات مقيمة ..الخ. و حتى التفكير بإيجاد بدائل محلية لهذه الشركات يتطلب وقتاً أطول ، هذا في حال توفرت كل الشروط اللازمة لتشغيل شركات كهذه.
في نهاية المطاف ، فإن هذه الإجراءات التي تقوم بها إدارة طرامب ، وإن كانت كما تقول حاشيته المقربة ، تستهدف تحسين شروط التفاوض ، فإن لها ارتدادات قد لا تكون قابلة للإصلاح في الوقت المناسب. و سوف يدفع المستهلكون ثمناً باهظاً في المقابل. حيث سوف تنعكس الإضافات على التعرفات الجمركية ،على أسعار المنتجات و تضاف إلى التكلفة ، طبعاً هذا في ظل عدم وجود بدائل جاهزة محلية لهذه المنتجات ، على سبيل المثال لا الحصر ، قدر خبراء اقتصاديون أن سعر حذاء نايكي سوف يرتفع من ٤٥ دولاراً للمستهلك الآن إلى ٢٢٠ دولاراً بعد فرض التعريفات الجمركية الجديدة ، وهاتف آبل ١٦ من ٥٤٥ دولاراً إلى أكثر من ١١٠٠ دولار .
و من البديهي القول أن حلفاء اميركا وأتباعها في العالم أيضاً ، و نتيجة هذه السياسات المتقلبة ، بدأوا يفقدون الثقة ، و صاروا يبحثون عن بدائل ، سواء من خلال إجراء تعديلات اقتصادية داخلية، أو من خلال البحث عن تحالفات اقليمية وعالمية أخرى.
هل يمكن اعتبار الطرامبية انقلاب على الدولة العميقة؟ وإن كانت كذلك فمن هي القوى التي تسندها؟
سؤال من الصعب الاجابة عليه ألآن، كون الأمور لم تتضح بعد، ولكن نظرة أولية على مجريات الأمور ، تشير إلى أن طرامب و منذ توليه الحكم ، يعمل بشكل حثيث على تدمير المؤسسة التقليدية للحكم ، هو لم يخف هذا الأمر منذ البداية ، في أثناء حملته الإنتخابية الأولى ، كان شعاره الانتخابي هو تجفيف المستنقع في واشنطن ، بمعنى التخلص من عفن مؤسسة الحكم ، ولم يخفي أيضاً اتهامه للديمقراطيين و أيضاً للجمهوريين المنخرطين في هذه المؤسسة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل أنه انخرط فعلاً في تغيير سياسات خارجية ، والتي كانت تعتمد على مبدأ محور الخير، الذي تمثله أمريكا و حلفائها، مقابل محور الشر في الطرف الآخر. ولعل أقرب مثال على ذلك عملية (النتف) العلني للرئيس الأوكراني الذي كان مدللاً حتى الأمس القريب، و طرده من البيت الأبيض، و التهديد بفرض تعريفات جمركية مرتفعة على أوروبا وكندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية.
إلا أنه وفي نفس الوقت ، إذا ما أمعنا النظر في مكونات القوى المؤثرة الداعمة لطرامب ( لا أتحدث عن جمهور الناخبين هنا بل النخب ) فإنها جزء من القماشة السياسية ذاتها ، أي جزء من مكونات الدولة العميقة، وإن لم تكن كلها بسبب وجود معارضة قوية لها في الطرف الآخر أيضاً.
هذا يعني أن جزء من الدولة العميقة ذاتها ، وأمام المتاعب التي يتعرض لها الاقتصاد الاميركي والدور المتآكل على الصعيد العالمي ، قد قرر أن يسير في اتجاه جديد، في محاولة لرسم مستقبل مختلف ، وهو في توجهه هذا يحمل طابعاً قومياً انعزالياً ، مستغلاً الجبروت العسكري والتفوق الاقتصادي أسلحة لإخضاع دول العالم ، بديلاً للدبلوماسية الناعمة خصوصاً مع الدول الحليفة.
إجمالاً فإن ما يجري الآن ، هو صراع داخل الدولة العميقة ذاتها ، وهذا الصراع لم يحسم بعد. إنه يشبه إلى حد ما الصراع الذي دار بين الرئيس الأميركي جون كينيدي وشقيقه المدعي العام من جهة و بين أطراف عديدة في الدولة العميقة ، على رأسهم في حينها، نائبه ليندون جونسون، و مدير وكالة المخابرات الفيدرالية هوڤر، و رئيس وكالة المخابرات المركزية من جهة أخرى ، وانتهى باغتياله في ظروف غامضة.
كان ذلك عندما تجاوز الرئيس كينيدي، الخطوط الحمر للدولة العميقة، بالطلب من بن غوريون، ومن بعده إشكول بإخضاع المفاعل النووي الاسرائيلي للرقابة النووية، وأيضاً حينما حاول اعتبار مجلس العلاقات العامة الاميركي الاسرائيلي منظمة أجنبية، وعندما رفض طلب البنتاغون إرسال مساعدات للمتمردين الكوبيين، و محاولته الحد من صلاحيات البنك الفيدرالي المركزي ، وقضايا خلافية أخرى مع أجهزة الاستخبارات ، و أركان الجيش.
ماذا بالنسبة لإسرائيل وحلفائها في الولايات المتحدة و موقعهم من هذا الصراع؟
يجب ان نتذكر دائماً أن حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة ، لا يضعون كل بيضهم في سلة واحدة فاعلون على ضفتي المعادلة دائماً .
و يجب أن نتذكر أيضاً أنهم و مع الوقت أنشأوا شبكة واسعة ومعقدة تغلغلت في المجتمع الأمريكي ، عمودياً وأفقياً ، وهذا يشمل النخب والجمهور أيضاً ، مع أن لكل منهما أدواته الخاصة.
على المستوى الشعبي ، يتركز العمل على تجذير التحالف مع الكنيسة الانجيلية ،لكسب تعاطف ملايين المتدينين من الناس ، وكذلك التركيز على وسائل الإعلام ، لبث الرسائل الإعلامية الموجهة للترويج لإسرائيل، وكبح الدعاية المضادة في نفس الوقت.
أما على مستوى النخب ، فتنشط لوبيات الضغط ، والأموال التي تقدمها هذه اللوبيات ، لشراء ذمم المرشحين للمواقع المختلفة.
لكن هذا ليس كل شئ ، هناك أطواق إضافية يحيط بها هؤلاء شؤونهم ، حتى لا يتركوا أي مجال للصدف ، ما ذكره أكاديمي فرنسي حول وجود ، محفل ماسوني صهيوني يضم قرابة النصف مليون عضو ، ويجند الموساد منهم خمسون ألفاً، يسمونهم السيانيم ، هو أحد الامثلة على هذا التغلغل ، هؤلاء كما يوضح الأكاديمي الفرنسي، هم عبارة عن نخبة من الأكاديميين والسياسيين والمهنيين في مجالات مختلفة ، يعملون كخلايا نائمة ، ولا يفصحون عن توجهاتهم السياسية ، حتى يطلب منهم تنفيذ عمل ما في لحظة ما.
كما أن هناك مجموعة من القوانين تحت مسميات مختلفة تجرم معاداة اسرائيل او تجريمها تحت باب معاداة السامية
وهناك أيضاً كبار الممولين من الموالين ، حيث لاحظنا كيف نشط هؤلاء إبان المظاهرات الطلابية تضامناً مع غزة ، و هددوا الجامعات بوقف مئات المليارات من الدولارات من التبرعات لها ، حال عدم قيام إدارات هذه الجامعات بوقف التظاهرات فيها ، بحجة معاداة السامية.
كما أنهم يمتلكون أيضاً ، قنوات علاقات خاصة ، يتقرب بها بعض الأثرياء والمؤثرين بشكل شخصي من أصحاب القرار، مثل الثرية مريام شيلدون ، التي ورثت هذه العلاقة عن زوجها المتوفى اديلسون شيلدون مالك نوادي القمار المعروف، و صاحب جريدة كول هيوم الاسرائيلية واسعة الانتشار، و يقال أن لمريام دور رئيسي ، في حث طرامب على الوصول إلى صفقة لإطلاق سراح المحتجزين الاسرائيليين في غزة . هؤلاء ينشطون بشكل دائم ولديهم حضور على الطرف الآخر أيضاً .
لذلك فمن المرجح أن تظل العلاقات الأميركية الإسرائيلية مستقرة ، كون حلفاء وأنصار الأخيرة ، هم جزء من نسيج الدولة العميقة و الظاهرة أيضاً، و متغلغلين في أوساط الأطراف المختلفة.
السؤال هنا لا يكمن في قدرتهم على التأثير من عدمها ، بل في مدى هذا التأثير ، والذي يتفاوت تبعاً لعوامل قوة من هم في الحكم في كلا البلدين، العوامل المحلية والدولية .
2025-04-13