هل تسقط الجزائر الخامسة كما أسقطت الرابعة؟
عبد الوهاب دربال
هل تكون الجزائر سببا في سقوط الجمهورية الخامسة، كما كانت ثورتها سببا في سقوط الجمهورية الرابعة؟
يبدو أنّ مثل هذا التساؤل يفرض نفسه هذه الأيام في ظل ما تتعرض له العلاقات بين الجزائر وفرنسا من إعطاب وتعفين لا يخدم مصلحة البلدين على المستويين المتوسط والبعيد.
أعتقد أنّ مستقبل العلاقات بين جمهورية فرنسا اليوم والبلدان الإفريقية التي استردّت سيادتها بالدم والنار وعلى رأسهم الجمهورية الجزائرية لن يكون بنّاء ومثمرا ما لم يعالج موضوع الذّاكرة بجرأة وشجاعة وصراحة وتواضع لطيّ هذه الصفحة والاتّعاظ بما فيها من مآس ودروس، والعمل على تحمّل كل طرف مسؤولياته التاريخية والأخلاقية كما فعل مع جهات وشعوب وأمم أخرى في جبر الضّرر وتحمّل تبعات الجرائم المادية والمعنوية التي تسبب فيها الاستعمار بالاعتذار أوّلا ثمّ محاولة تدارك الأضرار بتفضيل مصالح الدول والكفّ عن ابتزازها اقتصاديا وثقافيا، والعمل على إنتاج أسلوب جديد في ترسيخ قيم الاحترام المُتبادل لكل الأطراف.
لم يعد هناك من مبرر لبقاء اللغة الفرنسية مثلا كلغة -عمليا- شبه رسمية في البلاد؛ فالمبرّر الذي كان قائما قبل ستّين سنة قد زال كليا، وعليه فإنّ تثنية أيّ قرار أو تشريع بنسخة فرنسية لا مبرّر له. وكما استردّت البلاد سيادتها على ثرواتها الوطنية فإنّ استكمال كل السّيادة الثقافية والاجتماعية لم يعد قابلا للتّأخير.
إنّ الدول لا تختار جيرانها ولا تاريخها، كما أنّ الأجيال المتعاقبة فيها تتوارث قيَمها ومبادئها وعقائدها، وتستفيد من التطوّر العلمي والمعرفي ضمن قيم التنوّع والاختلاف الذي قد يكون إضافة إيجابية لتنويع العلاقات وتوسيعها لا سببا في إثارة الاستعلاء الاستعماري من جديد وإحياء روح الانتقام والثّأر التي قد لا تكون في صالح أيّ طرف.
ولتحقيق ذلك، وجب على الجميع أن يدرك أنّ ما لم يفلح الرصاص في فرضه لا يمكن تحقيقه بعلاقات غير متكافئة فرضتها ظروف المرحلة الأولى لاسترداد الأوطان، وأنّ القواعد التّمييزية على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية في المرحلة الأولى من الاستقلال لا يمكن أن تكون أبدية إذ تستمر الدول حديثة العهد بالاستقلال مصدر ثراء وابتزاز وتبعية للقوى الاستعمارية. ولعل لقب “قبلة الثّوار” الذي تحظى به الجزائر يثقل كاهلها لتكون رائدة في إزالة آثار الاستدمار كما أزالت وجوده من بلادنا.
لم يعد هناك من مبرر لبقاء اللغة الفرنسية مثلا كلغة -عمليا- شبه رسمية في البلاد؛ فالمبرّر الذي كان قائما قبل ستّين سنة قد زال كليا، وعليه فإنّ تثنية أيّ قرار أو تشريع بنسخة فرنسية لا مبرّر له. وكما استردّت البلاد سيادتها على ثرواتها الوطنية، فإنّ استكمال كل السّيادة الثقافية والاجتماعية لم يعد قابلا للتّأخير.
لقد أُزيح الستار في الفترة الأخيرة على حقيقة تبعث على الغثيان وهي أنّ فرنسا الاستعمارية ممثَّلة في اليمين المتطرف ما زالت على الغطرسة والاستعلاء نفسه، وأعتقد أنّها ما زالت لم تهضم أنّ أبناء نوفمبر الذين أسقطوا الجمهورية الرابعة قد تركوا أحفادا قادرين أن يكونوا سببا في سقوط الجمهورية الخامسة والتي يبدو أنّ إرهاصاتها تلوح في الأفق. ولعل السّقطات القانونية والسياسية، والممارسات الاستفزازية التي كشفت عنها تصرفات فرنسا الرسمية منذ صائفة 2024 إلى الآن خير دليل على ضياع بوصلة توازن سياساتها وتصرفاتها.
أعتقد أنّ إحياء مبادرة تنظيم ودادية الجزائريين في أوروبا أصبحت أمرا ملحّا. ولا أعني بذلك استنساخ نفس التنظيم والعنوان، ولكن الجالية الجزائرية في الخارج -وفي فرنسا خصوصا- تستلزم المزيد من العناية والاهتمام الميدانيين في ظل الوضع الدولي الحالي.
لقد عملت دبلوماسيا في أوروبا لمدة ثماني سنوات، وتتبّعت بعناية وشغف مدى العناية والتّنظيم الّلذين تحظى بهما جاليات كثيرة في معظم دول الاتحاد الأوروبي والآثار الإيجابية لهذه العناية على بلدانها سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
إنّ جاليتنا في أوروبا عموما تسكنهم الجزائر، أمّا جاليتنا في فرنسا، فقد استطاعت، بفعل عوامل تاريخية واجتماعية وثقافية، أن تجد نفسها في مختلف مفاصل النّسيج الاجتماعي الفرنسي، وهي بذلك مؤهّلة لأن تكون صاحبة السعادة في القيام بمهمة الدبلوماسية الشّعبية والتي تؤثّر على صنّاع القرار في البلدين بما يخدم العلاقات المتوازنة في تحقيق المصالح المشتركة من دون المساس بسيادة أيّ طرف ومن دون وصاية أو استعلاء أو تحقير، لأنّ ذلك قد يدفع إلى اهتزازات غير محمودة العواقب قد تكون ضحيتها الجمهورية الخامسة كما يؤكّد كثير من المنشغلين بالحياة السياسية والإعلامية وصنّاع الرأي في فرنسا.
2025-02-05