نحو تجسيد حركة التحرر الوطني والقومي الثورية!
كتب كاظم الموسوي
كتبت قبل أسابيع مقالاً بعنوان: نحو حركة تحرر وطني وقومي ثورية، حاولت أن أقرأ الواقع الوطني والقومي في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي، وذكرت فيه أن “الصراع الدموي القائم الآن في فلسطين المحتلة بين مقاومة الشعب الفلسطيني وقوات قاعدة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري يوضح أبعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لأشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن يأتي بعدها، داخلها بالتسلسل أو بالتقارب الجغراسياسي، ويعكس أبعاد الهيمنة والمشاريع الرأسمالية والدول الإمبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الإستراتيجي. وللأسف انعكست تطورات هذا الأمر سلباً أو تفشت ضعفاً أو غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والإسلامي، في أغلب التيارات والاتجاهات والأحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه إلى السطح بشكل كارثي لا يخدم الأهداف والمناهج التي اقتنع بها وأنتج الإيمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي أدت إلى الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة”.
وختمت المقال بمقولة معروفة: “هنا الوردة فلترقص هنا” بما لها من دلالات مهمة لمضمونه، والتي وردت في استخدام معبر عن روح التحدي والتحرك من أجل الانتصار والتغيير، والبرهان عليه. وكانت قد نسبت إلى عدد من المفكرين، واستخدمها عدد آخر من المثقفين والأدباء، ومنهم من وضعها عنواناً لإنتاجه الثقافي، أو شعارات الحراك الشعبي الغاضب، وبعد استخدامها من قبل كارل ماركس في كتابه، “الثامن عشر من بروميير”، نسبت إليه وهدفه منها، كما نقلت عن استخدام جورج فيلهلم فريدريش هيغل لها، وقصتها الإغريقية واختبار رجل ادعى قفزه من صخرة عالية في رودس، الجزيرة اليونانية التي يقال إن معناها، الوردة، واستخدم العبارة المعروفة بتحريرها المعروف، هنا رودس، الوردة، فلتقفز هنا، إلى ما عرفت به، وشاعت “هنا الوردة فلترقص هنا” كما كتبها هيغل في مقدمة كتابه “فلسفة الحق”. والمقصود منها، كما أوردها من استخدمها لتحريك الواقع والثورة عليه، والانطلاق منه لتجسيد حركة التحرر والتغيير وبناء الحاضر والمستقبل بوعي وإدراك ومسؤولية تاريخية.
نعود إلى ما بدأناه، بالأسئلة، لماذا هذا الواقع العربي والإسلامي المخيب للآمال؟ وما هذه الحالة التي وصلنا إليها؟، وتكشفت الآن بهذه الصورة المحزنة؟ وهل نستطيع أن نغيرها ونستعيد إمكانات التغيير والتقدم للأمة ونستثمر في توجيه تحولاتها؟ وكنا نعيش ملحمة تاريخية، من خلال عنوانها “طوفان الأقصى” والإسناد الشجاع له من محور واسع رفع شعارات التحرر الوطني والقومي من منطلقات إسلامية تحررية ودعم مباشر من الجمهورية الإسلامية في إيران، فماذا حصل ولماذا؟، أليس من المتوقع أن يكون رد العدو الصهيو إمبريالي بهذه الممارسة الإجرامية الوحشية، وما الجديد فيها؟. صحيح.. فتحت أبواب الجحيم، وظهرت الإمبريالية والرأسمالية العالمية بوجهها الحقيقي في الانتقام واستخدام القوة العسكرية الفتاكة بإفراط مفتوح، فقد دمرت قطاع غزة وحوّلته إلى أنقاض، كمعيار للاحتلال والتهجير والإبادة الجماعية، وامتدت إلى مناطق أخرى من جمهورية لبنان وبعدها عمليات واسعة داخل حدود الجمهورية العربية السورية، وهددت وأرعدت وقد تواصل نهجها العدواني النازفاشي (النازي- الفاشي) إلى خارجها بدعم واضح وصمت جارح.
خلال تلك الفترة، من بعد السابع من أكتوبر 2023، تعرض الوطن العربي والأمة العربية والإسلامية، إلى حالة من الذهول والإنكار والتفرج على العدوان والمجازر النازفاشية. وكشفت الأيام تخاذلاً عربياً رسمياً وتواطؤاً مذلاً، حتى في بيانات اجتماعات قمم شكلية. سميت بقمم عربية أو إسلامية، لا فرق بينها، ونطقت بفضيحة التخاذل والمشاركة والخنوع بالتخادم للمخططات والمشاريع الصهيو إمبريالية. واستعملت حتى وسائل الإعلام المختلفة في التضليل والتشويه والخداع وخيانة شرف المهنة. فما مسؤولية الظروف الموضوعية والذاتية فيها، وكيف نفعّلها بعد كل ما جرى وحدث ومازال بعضه مستمراً، بل إن بعضه صار أخطر مما كان عليه؟
إذا كانت الظروف الموضوعية، وصفاتها، وانعكاساتها المؤسفة، تعكس طبيعة الاحتلال الشامل للوطن العربي، بأشكال مختلفة ومتلونة، وتعبر عنها الحالة الظاهرة للعيان، التخادم والتخاذل والتواطؤ والارتهان المصيري بين القيادات الرسمية والعدوان الصهيو إمبريالي، الذي يمارس خططه في تسمين قاعدته الإستراتيجية العسكرية وتوسيع مراكزه وتصعيد إرهابه ومجازره، وتحويل نفوذه إلى واقع متوافق عليه، يعمق من أزمة التبعية وتشابك صراعات التخلف والنهب والاحتكار والتباينات البينية، معرياً احتلال الأرض وخيراتها المادية، جهاراً نهاراً، ومقرراً عبر نفوذه وهيمنته سياسات الحكم والتعامل مع الاحتلال بروح الأمر الواقع، قبول الاحتلال للوطن والثروات والإنسان، ثقافة وممارسة، شراء وتقبلاً، وإجراءات وامتيازات تكرس التفاوت بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وتؤسس قواعد استسلام للاستبداد والطغيان والفساد وكي الوعي وغسل الأدمغة. واستمرت في تهيئة وإعداد ما تسعى إليه وتطلبه، قبل الطوفان وبعده، من مساع لتصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وخنق الشعوب التي دعمتها أو ناضلت معها ومن أجلها.
بعد هذه الإشارات السريعة عن الظروف الموضوعية، ما هي الظروف الذاتية وما هو دورها ومهماتها العملية في تلك الظروف المحيطة بها؟ والتي ينظر إليها مباشرة، كقوى ومنظمات وأحزاب وتيارات فاعلة ومؤثرة في المجتمعات والأوطان. ولعل السؤال أو الأسئلة الراهنة كيف تقوم هذه المؤسسات الجماهيرية بدورها في التصدي لحالة الانهيار وواقع الخذلان والرهانات الاستعمارية التي تكبد الشعب العربي في الوطن العربي، كموقع متقدم أمامها، وتدفع إلى التخادم بين القوى الرجعية والطغاة العرب والمسلمين مع القوى الإمبريالية المتنفذة في المشهد السياسي والعملي اليوم؟!. ولهذا الأمر استخدمت المقولة المعروفة، التي سبق ذكرها، بدلالاتها ومعانيها ومفهومها الثوري والحركي والمحفز لأخذ زمام المبادرة والتحرك الفعال للتغلب على التحديات الكبيرة والصعوبات الكثيرة والمواجهات المطلوبة، فهذا هو الفعل المباشر لمثل هذه الوقائع اليومية.
ما تنقله الفضائيات مباشرة عما يحصل في قطاع غزة وجنوب لبنان وشرقه والآن في الأراضي السورية، من ممارسات نازفاشية، وإبادة جماعية وتطهير عرقي وتدمير مبرمج للمدن وجعلها غير صالحة للسكن، والمؤسسات والمنشآت العسكرية وغيرها من الممارسات تتطلب من كل إنسان ذي ضمير أن لا يصمت متفرجاً، ومن القوى والتيارات الفاعلة أن توحد جهودها وتطور وعيها وأن تجتهد في مواقفها العملية بكل أشكال الكفاح من أجل تحقيق مهمات التحرر الوطني والتغيير الثوري. وهو الأمر الذي يضع هذه القوى والتيارات حية في واجهة المشهد والتاريخ ويعيدها إلى تاريخها الوطني في البناء والنضال الحقيقي ضد الإمبريالية والرجعية والاحتلال والاستبداد والفساد والخيانات الغادرة.
لا حل أمام الشعوب العربية والإسلامية اليوم بعد كل ما يحصل في منطقتنا من دمار وخراب ودماء وقتل وفظاعات تشكل وصمة عار تفضح دعاة القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان من حكومات الغرب عموماً، لا حل إلا في الصمود ورد الاعتبار بالمقاومة والمجابهة لها، فإن الصمت عار وإن التفرج على الدماء يوصل إلى المثل المعروف أيضاً، “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”، وأن الوقائع القائمة أكبر دليل وبرهان. ولعل معرفتها تدفع إلى برمجة مهمات الكفاح الوطني، والبدء بها، حتى ولو بالتدرج وبأعمال حركية جماهيرية تساعد على فتح السبل إلى التحرر الوطني والقومي. فما حصل في تونس والأردن، مثلاً وفي هذه الظروف المربكة، من محاصرة المتظاهرين لمباني السفارة الأمريكية في تونس العاصمة وعَمان، والمطالبة بإغلاقها وطرد السفراء وأجهزة التجسس ووسائلها الإجرامية، يرسم خطوات أولية، لخطوات متتالية ومتوازية، لطرد أوكار الشر الإمبريالية من وطننا الكبير، ولا بد أن يصبح هذا النضال التحرري مستمراً ومتواصلاً في كل البلدان العربية والإسلامية، في البداية كمرحلة أولى ضد السياسات الصهيو إمبريالية، ومن ثم يتابع انطلاقها في العالم، حيث أحرار العالم يشاركون في التظاهر والاحتجاجات الغاضبة، ورفع الشعارات والرموز التي تعتبرها حكوماتهم ممنوعة في قوانينها وسياساتها، بينما يتحدى هؤلاء الأحرار ذلك ويخرجون باستمرار في مظاهرات شعبية كبيرة ومعبرة عن صحوة عالمية، تدين الحروب والعدوان والاحتلال والإبادة البشرية. ولا بد معها من العمل على تصعيد الكفاح التحرري والبناء الوطني والقومي والإنساني، سوية وإلى الأمام، في التخلص بكل أشكال الكفاح من الطغيان والاستبداد والاستغلال والفساد والظلم والاضطهاد والقمع والعبودية المركبة.
دون ذلك فإن التاريخ لا يرحم وأبوابه لا تفتح دائماً إلا لمن يثبت نفسه ويسجل صفحاته المعهودة في التحرر والتغيير والتقدم. فإما أن تكون معرفاً في التاريخ ويسجل لك صفحتك، أو خارجه، وتلك كارثة ترميك في النسيان وخيبة الآمال. ولعل ما شهد به التاريخ العربي من بطولات وصفحات مجد وشهامة وتضحية وإقدام هي الأبرز والأشرف والأكرم.
2025-01-14