مواجهة التكتيك التفاوضي الاسرائيلي!
وليد عبد الحي
تدل المراجعة التاريخية للتفاوض العربي الاسرائيلي المعلن والسري(الذي انكشف لاحقا) ان العمود الفقري للتفاوض الاسرائيلي يقوم على فكرة “التجزئة” في ثلاثة جوانب هي الموضوع والزمن والاطراف على النحو التالي:
أولا: الموضوع:
عند مراجعتي لكل حالات التفاوض بين اسرائيل واي طرف عربي فانها تقوم بتقسيم الموضوع الى اجزاء، ثم يتم تقسيم كل جزء الى اجزاء فرعية ، ويجري التفاوض على كل جزئية فرعية ، وتعمل على تحقيق اكبر قدر من المكاسب في كل جزئية فرعية ، مما يؤدي الى ان مجموع حصيلة المكاسب الجزئية يفوق قيمة مكاسب التفاوض على “كل ” الموضوع.فالطرف الاسرائيلي في الموضوع الفلسطيني طبق ذلك تماما في كل مفاوضاته منذ اتفاقيات الهدنة عام 1949 الى الآن، ففي اوسلو مثلا قسمها الى موضوعات الارض والسكان ، ثم قسم الارض الى مناطق أ و ب و ج، ثم مناطق عسكرية ومناطق محميات طبيعية ، ثم القدس، وقسم القدس الى حدود بلدية واماكن مقدسة، ثم قسم الاماكن المقدسة الى اماكن يهودية واسلامية ومسيحية في كل الضفة الغربية…وفعل نفس الشيء في المياه والكهرباء …الخ.
والخطورة في تجزئة الموضوع هو ان التنازل في الجزئية الفرعية تبدو للمجتمع العربي امرا مقبولا، لكن تراكم المكاسب الجزئية يكشف عن صيد ثمين، والكل اكبر من مجموع اجزائه( Holism).
تقول احدى الدراسات الاكاديمية في تجارة الاعمال ان ” مجموع ” ارباح تجار التجزئة(القطاعي)(Retail) يفوق ارباح تاجر الجُملة(Wholesale) لنفس السلعة ونفس الكمية..
ثانيا: الزمن:
يتم تقسيم الزمن في التفاوض الاسرائيلي الى قسمين هما القضايا الآنية ،ثم الموضوعات المؤجلة(او ما يسمونها بقضايا الحل النهائي)، وتعمل اسرائيل على تاخير قضايا الحل النهائي الى اطول فترة ممكنة ، بينما تركز على الموضوعات الآنية التي لها اهميتها العاجلة لها وليس للطرف الآخر، ويكاد الامن هو الموضوع الآني الاهم بالنسبة لاسرائيل ، وهو ما يلاحظ في ان الاعتراف العربي باسرائيل والتطبيع معها تم دون أن يتم تنفيذ بند واحد من بنود اوسلو رغم ان طول المرحلة الأولى لالتزام اسرائيل بباقي بنود اوسلو هو خمس سنوات، وها هو يمضي على الموضوعات المؤجلة ما يزيد عن 31 سنة.
ثالثا: الاطراف:
لا تميل اسرائيل للتفاوض مع “كتلة عربية” بل مع كل طرف لوحده، بل انها لا ترى ضيرا من التفاوض مع بُنى فرعية في الطرف الواحد، فهي لا تتورع عن التواصل حتى مع ممثلي بعض الاقليات في دول عربية مشرقية ومغربية، ومن المؤكد ان التفاوض الفردي مع كل دولة يجعل تأثير ميزان القوى أكثر من نتائج التفاوض مع كتلة، فقد تفاوضت مع دول التطبيع كل لوحده ودون ادنى مشاركة او حتى تنسيق مع طرف آخر، لان التفاوض الاحادي يجعل نتائج ميزان القوى يعطي ثمارا افضل من التفاوض مع مجموعة.
وفي الظرف الحالي فان اسرائيل تريد :
1-تجزئة موضوع غزة الى الموضوعات التالية: سلطة بديلة لحماس، وجود قوة دولية او عربية او مشتركة، نزع سلاح غزة، موضوع ادخال المساعدات ، العلاقة بين استكمال التطبيع والحل في غزة، موضوع الغاء وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، المنطقة العازلة في شمال القطاع(خطة الجنرالات)،موضوع الرقابة على الحدود المصرية الاسرائيلية ،موضوع الرهائن…وهي تسعى لان تضع الموضوعات الهامة لها اولا وهي موضوع الرهائن وتدمير المقاومة وفصل مسار غزة عن المسار اللبناني او اليمني او حتى العراقي- فالامن هو اولويتها الاولى- ثم ستبحث بقية الموضوعات طبقا لجدولها.
2- تقسيم الزمن: ويتضح ذلك في انها لا توافق الا على وقف اطلاق النار لفترات قصيرة( مثل الاقتراح المصري الاخير بيومين) وفي كل مرحلة قصيرة تحقق نتائج لتعود للحرب مرة اخرى ليتم وقف جديد ومكاسب جديدة وهكذا..الخ ، ثم سيتم تأجيل ادخال المساعدات الى نهاية المرحلة الزمنية ليفعل الحصار فعله في الضغط على المقاومة، واستثمار اية تطورات لاحقة لصالح اسرائيل او لتحديد خططها طبقا لتلك التغيرات المستقبلية مثل الانتخابات الامريكية وغيرها.
3- تقسيم الاطراف: تدرك اسرائيل الحساسية الكامنة بين مصر وقطر، لذا كانت متحمسة لوجود طرفين عربيين في فريق التفاوض ولكن الطرفين يُضمران لبعضهما هواجس نائمة يمكن ايقاظها في اللحظة المناسبة ، وتحاول استثمار علاقات كل دولة من طرفي التفاوض(المصري والقطري) للتواصل مع اطراف اخرى، ثم تحاول توظيف اطراف التطبيع ليؤدي كل منهم دوره في التفاوض المباشر(طاولة المفاوضات) او التفاوض غير المباشر من خلال تقديم التسهيلات من قبل اطراف التطبيع التي تساعد اسرائيل على خنق المقاومة ،فيتحقق الهدف بهذا التفاوض غير المباشر، فهي تجزء العرب الى فريق التفاوض وفريق التطبيع وفريق الخصوم وفريق لا في العير ولا في النفير، وتدير العلاقة مع كل على انفراد.
الخلاصة:
اظن ان من الضروري ان تتجنب المقاومة في اية مفاوضات كل ما سبق وتصر على ترابط وتزامن ثلاثة موضوعات هي : وقف اطلاق نار دائم وانسحاب كامل من غزة وفتح معابر المساعدات وبشكل متزامن ، واعتبار ذلك قاعدة للبحث في موضوع الرهائن وليس العكس.
من جانب آخر، ارى ان الاختبار الأكثر اهمية لمحور المقاومة ومدى التزامه هو في الاسابيع القادمة وبخاصة بعد الانتخابات الامريكية، وضرورة تأكيد الربط الذي لا تنفصم عراه بين جبهات المحور ، فاسرائيل ستعمل على العودة لتكتيك التجزئة بالقول بوقف اطلاق النار في لبنان ثم نبحث في موضوع غزة، وستعمل على طرح موضوعات قد تكون موضع خلاف بين المقاومة في غزة وسلطة التنسيق الامني في رام الله ، او بين فصائل المقاومة ذاتها او مع بعض العرب او فريق التفاوض…الخ ، فالتجزئة هي الفكرة المهمينة في عقل المفاوض الاسرائيلي…بينما لا بد ان تكون استراتيجية المفاوض الفلسطيني هي:وحدة وتزامن وترابط الموضوع لمحور المقاومة، دون ان يمنع ذلك بعض تكتيكات التمويه التفاوضي شريطة الحفاظ على استراتيجية التفاوض وهي الوحدة والترابط والتزامن.
2024-10-30